لم يشدني تنبيه المشرف على الطائرة لربط الأحزمة استعدادا للهبوط، بقدر ما شدني وللحظات منظر بقعة من الأرض ظهرت كلمحة سريعة بين سحب كثيفة، لقد كان منظرا خلابا لم أر في حياتي مثله بساط أخضر يوحي للنفس بمعان فريدة من النضرة والشباب والحياة. وسرعان ما دخلت الطائرة بين السحب ثم عاد المنظر الأخضر للظهور من جديد ولكن هذه المرة بشكل أكثر إبداعا ووضوحا، ولم يبعد المنظر من ذاكرتي سوى هبوط الطائرة والخروج منها إلى صالة المطار، وما هي إلا فترة وجيزة حتى كنا خارج مطار صلالة، وعشنا لحظات الاستقبال الحافل من مضيفينا الذين ميزتهم وجوه باشة وعبارات استقبال حلوة وعذبة تنم عن نفوس كريمة، وسرنا تحت رذاذ مطر ناعم هادئ ينافس هدوء أهل صلالة، ولم يطل الطريق فقد كنا في فندقنا بعد أقل من ربع ساعة، ولكني لم أحتمل الجلوس في الفندق بعد وضع متاعنا به، وسرعان ما عدنا لنصعد إلى ربوة خضراء توقفنا عندها لبرهة ونزلنا جميعا من السيارة لنمتع عيوننا بالمنظر الخلاب من جهة ولنستمتع برذاذ ناعم يداعب وجوهنا من ناحية ثانية، وبعد صعودنا للسيارة حانت مني التفاتة إلى صخرة كبيرة مسطحة كساها الماء وكانت بقعة نشازا في وسط تلك الربوة، عدنا بعدها إلى الفندق وعدت بدوري سريعا إلى نسخة من المصحف كنت أحتفظ بها في محفظتي وفتحته لأقرأ قوله عز من قائل: (ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير)، يومها أدركت أثر الطل، وأدركت الجنة التي بالربوة، وشعرت ولأول مرة بشعور غريب جعل من المثل الذي ساقه الخالق عز وجل في هذه الآية صورة واضحة ومؤثرة في نفسي، وأدركت يومها أن من ينفق من المؤمنين إنفاقا يبتغي فيه وجه الله ورضاه وتثبيتا لنفسه كالبستان في ربوة فإن كان مطرها الذي يرمز للعطاء غزيرا فإن نباتها سيعطي أضعاف ما يتوقع منه، وإن لم يكن هذا المطر (العطاء) كبيرا وكان طلا (رذاذا) بسيطا فإن الناتج بستان أو أرض خضراء تسر الناظرين وتعطي للعين إحساسا بالرضا، وبالمقابل كانت الصخرة هي الصفوان الصلب القاحل المنفر الذي يقطع على الناظر الإحساس بروعة المنظر وهي نموذج حي لمن يعطي ويتبع ما يعطي بالمن والأذى، فكأن الأذى هو الكلمة المقابلة للمن، فلا يمكن أن يكون من بدون أذى بل إنه هو عينه الأذى، (ياأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين)، إن هذا المن الذي يعقب عطاء مهما كبر هو كالمطر الغزير الذي يذهب ما على الصخرة من تراب ويبقيها صلدة جافة لا خير فيها ولا نبات ولا تصلح لشيء، عدت لنفسي وأنا أعيش المعاني بصورة لم أعشها من قبل، وتذكرت كم هم الذي يعطون عطاء كثيرا ولكنهم يتبعون عطاءهم بالمن والأذى فيحيلونه إلى صخرة جافة في وسط ربوة خضراء هي نتاج عطاء من يعطون دون من أو أذى بل هم يتكتمون على ما يعطون خشية تحويل ناتج العطاء إلى محق وصخرة صماء، لكل معط في هذا الشهر الكريم أردت أن أنقل هذه الصورة من واقع رأته عيناي ووعاه قلبي آملا أن يكون عطاؤنا في شهر الخير أقله رذاذ وأعلاه طل، دون من ولا أذى. للتواصل ارسل رسالة نصية sms الى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 146 مسافة ثم الرسالة او عبر الفاكس رقم: 6327389 الهاتف: 2841552 الإيميل: [email protected]