أعتقد أن الشعراء معنيون بأفلام الكرتون أكثر من غيرهم، لا يشاركهم في ذلك سوى الأطفال، لأنها لغة خياليّة، وحيث يكون الخيال يكون الشاعر، ولأنها، أيضا، أرض خصبة للتفكير؛ ذلك أنها تمنح الشاعر قدرة على الابتكار، والابتعاد عن مواطن الزحمة، ثم إنها ليست خيالية فحسب، وإنما تنطوي، إضافة إلى الخيال، على تفكير فلسفي قد يفيد منه الشاعر في إنتاج الحكمة الشعرية الخارجة عن الحكم السائدة التي أنتجتها عقول الآخرين، وإضافة إلى هذا كله فثمة لقطات شعرية مكرتنة (وليست مسرطنة) يمكن أن تلفت نظر الشاعر إلى المفارقات التي تنتج عن الصراع الإنساني فوق هذه البسيطة، ولنضرب لذلك مثالا في ما يحدث من صراع مستمر بين القط والفأر (توم وجيري)، وهو الصراع الذي تكون فيه الغلبة دائما للفأر، وكأنه يمثل الصراع الإنساني بين قوى الخير وقوى الشر، ولكنه يقدم، في الفيلم الكرتوني، باعتبار مآله، حيث تنقلب كل حيل القط رأسا على عقب، فيكون هو الضحية. من الحيل الكرتونية التي تنطوي على بعد فلسفي، وشاعري قائم على الخيال، تلك الحيلة الماكرة، التي نصبها الثعلب للطائر السريع، حين رسم على واجهة الجبل نفقا على أحدث طراز، وكان يريد أن يصطدم به الطائر، بعد أن يحاول عبور النفق، لكن المفاجأة كانت مذهلة، حيث عبر الطائر النفق، وتحت الشعور بالصدمة حاول الثعلب عبور النفق ليلحق به فاصطدم بحرف الجبل! يريد أن يقول البعد الفلسفي لهذا المشهد، إن الاعتقاد أقوى بصيرة من الإدراك، فالطائر السريع كان يعتقد أن النفق المرسوم على واجهة الجبل حقيقة لذلك عبره بناء على هذا الاعتقاد، على العكس من الثعلب الذي كان يعتقد بطلانه ويعلم أنه خدعة، ولكنه لما رأى الطائر السريع وهو يعبر النفق أراد أن يغالط نفسه في حقيقة يعلمها فاصطدم بالجبل، فالنفق ليس سوى أصباغ على حافة جبل، وهكذا يمكن أن نفهم الأشياء من حولنا، ونتعامل معها كذلك، وفقا لبصائرنا، لا أبصارنا، كما أن الحقيقة تكمن في شعورنا بها واعتقادنا لها، وليس الإدراك إلا طريقا نسلكه إليها. وفي مشهد آخر كان أحد الفئران النشطة يغسل سيارته، وكان يعمل ضمن فريق عمل دؤوب، حتى إذا فرغ منها وبدت ذات بريقٍ أخاذ، مرت سيارة مسرعة من جانب وحل فتطاير ماؤه الآسن على سيارته وأعادها إلى سيرتها الأولى، وقد حدث هذا المشهد مرتين، كلما فرغ من الغسيل. وفي المرة الثالثة، وعندما رأى السيارة متجهة نحوه، أخذ من ماء الوحل فرش به سيارته، لكن السيارة غيرت اتجاهها، ولم تفعل ما كانت تفعله في المرات السابقة، حيث دخلت في المرآب قبل أن تصل إليه. مثل هذا المشهد الساخر، ينطوي على مفارقة من المفارقات التي تواجهنا في حياتنا، وهي لقطة ذكية، ولطيفة تريد أن تقول: ليس في كل الأحوال ما نتوقعه يكون صحيحا، حتى وإن بدا هذا التوقع مبنيا على خبرة سالفة تصل إلى حد اليقين بما سيحدث. ولكن ما دخل الشعراء بهذه المشاهد التي هي أقرب إلى الفلسفة من الخيال؟ سؤال مشروع يمكن الإجابة عليه بالإشارة إلى أن الفلسفة التي ينتجها النص الكرتوني إنما هي فلسفة خيال، وليست فلسفة فكر، وفلسفة الخيال أقرب إلى الشعراء منها إلى الفلاسفة المفكرين، وكان شعر المتنبي من هذا القبيل، لأنه يفكر بخياله، ويستنتج من خلاله الفكرة الشعرية الفلسفية، وما أكثر ما نقرأ في شعر المتنبي مثل هذا التفكير الناتج عن خيالٍ حر يسبح في الأفق، من مثل قوله «إذا ترحلت عن قومٍ وقد قدروا/ ألا تفارقهم فالراحلون هم»، إنه يخيل إليك بقوله «فالراحلون همُ» صورة خيالية تتحول فيها القاعدة إلى استثناء والاستثناء إلى قاعدة، حين ينفصل الجزء الأكبر، والأكثر، فيتحرك، ويبقى الجزء الأصغر، والأقل، ثابتا. ومن ذلك، أيضا، في قصيدة له يهجو فيها ابن كروس، ويشكو زمانه، هذه الصورة التي تجعل رمال الصحراء موغرة الصدور عليه «عدوي كل شيءٍ فيك حتى/لخلت الأكم موغرة الصدور»، تأمل قوله (موغرة الصدور) وضع في خيالك هذه الصورة، ثم قارن بينها وبين ما يحدث غالبا في نهاية كل مشهد كرتوني، يوم يسدل الستار على القط وهو يتحاشى الألغام التي في طريقه هاربا من صاحبة المنزل، التي غالبا ما تلقي باللوم عليه. لا أجد صورة مشاهدة لهذه الأكم الموغرة الصدور سوى هذه النهاية الكرتونية التي يظهر فيها القط محاطا بالألغام الرملية. من هنا فإني أعتقد أن الشعراء بحاجةٍ إلى أن يعودوا إلى أفلام الكرتون، لتوسيع آفاقهم الخيالية، كي ينتجوا صورا شعريّة جديدة، وكي يبتعدوا عن التناسخ الذي يجعلهم يعيدون الصور الشعرية الباهتة، فكما أن الشعر طفولة اللغة، لأنه محاكاة وتخييل، فكذلك هو بحاجةٍ إلى الطفولة ليمتح من خيالها صورا يعيد إنتاجها وتركيبها وفقا للخيال الشعري الخلاق. فعلى كل شاعر أن يسجل مشاهداته أولا، ثم يسجل انطباعاته ثانيا، ثم يعيد إنتاج النص الكرتوني في صياغة شعرية جديدة.