اللحظة الفارقة والكبيرة التي مثلت اغتيال نصر الله، تستلزم النظر إلى الصورة الكبيرة والتي تعد هذه التصفية على أهميتها تفصيلاً صغيراً فيها، ليس فقط على مستوى تغير قواعد الاشتباك، بل على مستوى أي شكل لمنطقتنا سنصبح عليه غداً. في حين كنا نشاهد أكتوبر يزحف نحونا غير مصدقين أن حرب غزة تقترب من إطفاء شمعتها الأولى، مع إصرار إسرائيلي على أن تدفع حماس ثمناً باهظاً لما قامت به قبل عام من إهانة للهيبة الإسرائيلية، أتى اغتيال إسماعيل هنية كحدث صادم. لما يكن مقتل هنية صادماً فقط لنحو أهميته التنظيمية، بل على مستوى موقع الحدث ومدى الاختراق الذي قامت به إسرائيل بشرياً ولوجستياً، وما عناه ذلك من وهن صورة الحرس الثوري، التنظيم الذي يتجاوز في قوته الجيش النظامي للدولة. وفي تقييم إيران لاستثماراتها في أذرعها كانت أولويتها الهجوم عبر الحوثيين رغم بعد المسافة، ومحاولة الحد من تدخل حزب الله بحكم أنه الاستثمار الأكبر، وخسارته تجعل ظهرها مكشوفاً، بما يشبه الوضع قبل انطلاق حربها مع صدام، فالحزب ليس أكثر الأذرع تدريباً وتنظيماً فقط، بل إنه الأقدر على القتال في سورية وتدريب المليشيات في اليمن والعراق، وصولاً إلى القيام بعمليات خارج المنطقة سواء في أفريقا أو أوروبا. الحوثيون يبقون بعيدين عن إسرائيل ومحدودي الضرر، وبالرغم من ذلك لم يسلموا من ضربة موجعة في الحديدة، أما حزب الله والذي ظل أمينه يردد بصيغة واثقة نديته مع إسرائيل وأنه سيمنع سكان شمال إسرائيل من العودة لمنازلهم، لم يمر عليه شهر أسود من سبتمبر الجاري. فقد تعرض حزب الله لتزاحم من الضربات الموجعة، انطلاقاً من تدمير البياجر والتي أعتقد أنها وسيلة آمنة، مروراً بأجهزة اللاسلكي، وليس انتهاء باغتيال حسن نصر الله مع نخبة من قيادات الحزب والحرس الثوري، عبر 80 قنبلة خارقة للتحصينات من نوع «هايفي هايد» MK84 تزن الواحدة طناً، وتستطيع اختراق عمق يصل إلى 70 متراً تحت الأرض. ولا شك أن التحليل التقني لقدرات القنابل التي انطلقت من طائرات F15i، يجعل البرنامج النووي الإيراني يتحسّس رقبته، على أي عمق كان، وربما بالحديث عن الاختراقات الإسرائيلية في الداخل الإيراني، من الجيد تذكر مشهد نتنياهو حين عرض 50 ألف مستند نجح الموساد والشاباك في إخراجها من طهران ووصولها لتل أبيب. وسواء توقفت إسرائيل عند عملياتها في غزة ولبنان، أو امتدّت إلى إيران وربما العراق، خاصة بعد ما أطلقت مليشيات من العراق مسيّرات نحو إيلات، فإن طهران بلا شك تدرك أن المنطقة بعد عام من السابع من أكتوبر ليست كما كانت قبله. وسواء كانت تلقت هذه الضربات ضعفاً في منظومتها الأمنية، أو كانت كما يُطرح من البعض ضحت بهنية وحسن نصرالله، فإنها تستعد لصفقة مع الرئيس الأمريكي القادم أياً كان، لن تقل هذه الصفقة عن توديع الطموح النووي والحد من مغامراتها، على طريقة تجرع السم. فإيران التي اعتادت على أن تنتهي مغامراتها عادة بتقليم أظافرها، تدرك أنها تعرضت هذه المرة لقطع أصابعها.