ترى الشاعرة اللبنانية الفرنسية سارة الزين أن مشاركة الأدباء والشعراء في المسابقات الشعرية إما أنها بسبب المال، أو بسبب الشهرة، وهما أمران ليست بحاجة لهما.. وتقول الزين، في معرض ردها عن هوياتها المتداخلة: إن الشاعر يولد غريباً بعد أن ينفصل عن رحم أمّه، وبعدها، لا وطن يؤويه، لا وطن يجمع شتاته، يحبّ كلّ شيء، ولا يجدُ نفسه في شيء، يجمعُ الذكريات والأحداث، ينتمي الى التراب، الى الأرض، تسكنه القرى ويسكنها، تسكنه المدن فتتشكّل منها قصائده وملامحه، غير أنّ غربته تبقى طاغية حدّ الوجع، حساسيّته المفرطة تمنع عنه طمأنينة البلاد والأوطان.. الكثير قالته الزين عن الشعر والرواية والجمهور السعودي الذي التقته، أخيراً، فإلى نص الحوار: أفعل التفضيل • ما زلنا نختلف في الشعر؟ ما تعريفك وما خطتك كي نتفق عليه؟ •• أجمل ما في الشعر هو أننا أعجزُ من أن نحدّدهُ ونؤطره ونعرّفه.. أجمل ما فيه هو أننا نختلف فيه! ولا نعرف كنهه.. هو كالروح! علمُه عند الله.. حين نجتاز مرحلة النظم والتقليد، يصبح تعريف الشعر أمراً تعجيزيّاً لكلّ شاعرٍ حقيقيّ! من الممكن توصيفه، كلٌّ بحسب زاويته، ولكنّني ضدّ تعريفه، أنا مع الجمال حيثما كان! نعم لديّ ما أسمّيه «مشروعاً»، وليس خطّة، أعمل على تذكية ذائقتي الشعرية وتهذيبها، ونشر الجميل من الشعر كي ترتقي ذائقة من حولي معي، نحتاج الى مجتمعٍ ذوّاق، مجتمع يكفّ عن استخدام «أفعل» التفضيل، مجتمع يحبّ الشعر ويعرفُ أن لكلّ شاعرٍ سماءً وتحليقاً يخصّه ويتفرّدُ به! باختصار شديد، أقول ما قاله الباحث والروائي إدواردو غاليانو: «أنا لا أطلب منك أن تصفَ سقوط المطر، أنا أطلبُ أن تجعلني أبتلُّ...»! والشعرُ.. يجعلنا نبتلّ!! • تنصحين بالكف عن استخدام أفعل التفضيل، إذن لا تحبذين برامج المسابقات الشعرية، وجوائز الشعر والرواية؟ أليس كذلك؟ •• الأديب والشاعر يشارك عادة في المسابقات والجوائز لأسباب عدة؛ أبرزها أمران اثنان: إمّا لأجل الجائزة المالية، أو لأجل الانتشار والشهرة، وواقعاً لم أشعر يوماً بالحاجة الى هذين الأمرين.. كذلك فإني لطالما كنت أظنّ أنّ أكثر ما أوقعنا في مشكلة التباغض والتحاسد هو المقارنة العقيمة بين تجارب يجب ألا تقارن في الأصل، لأنّ لكلٍّ منّا تجربة خاصة ولغة خاصة وميزة خاصة وتغريدة خاصة تشبهه هو وحده، من الظلم بمكان مقارنته بغيره، وجعنا يشبهنا وحدنا، حزننا ذكرياتنا وآلامنا والأحداث التي مررنا بها والندوب.. كلها رسمتنا وشكّلتنا، علام يختزلنا المتلقّي بمقارنة ظالمة مع تجربة أخرى لها بيئتها وحيثيّاتها ومقوّماتها المغايرة؟! أؤمن أن لكلٍّ منا سماءً وتحليقاً خاصاً يشبهه.. والسماء تتسع للجميع، أحترم رأي من يراني الأجمل في عينيه، ولكنني لن أقبل أن يقارنني بالآخر أو أن يراني أفضل منه! فهو بذلك يصغّرني ويحجّم أجنحتي ويوسّع حدقة العيون على ظلالي التي كنتُ أحسبها حصني غير أنّ الحساد باتوا يتسلّحون بها ليعرّوا قصيدتي..! بين الرواية والشعر • بين خلود الشعر وسطوة الرواية.. أين تجد سارة الزين نفسها؟ •• الشعرُ مهلكي، وحتفي بين رويٍّ وقافية! الشعر كان يحاصرني منذ البداية، هناك من حال بيني وبين تفجيره إلى الخارج، الشعر طفلي الذي أخفيت حمله عن أعين الناس، كنت أخبئه فيّ؛ مخافةَ أن تنتشله منّي أيدي الأقدار، غير أنّه كان قدري، وبعد أن غفا ثلاثين حولاً في أحشائي، صرخ صرخته الأولى بين يديّ وما استطعت أن أكتم صرخته! الرواية شعر! والموسيقى شعر، وكلّ إحساس باللذة هو شعر، الوجود كلّه يضجّ بالشعر، الحزن والعوَز، والفقر والموت والدمع والرقص والأرق... كلّ هذا شعر كثير يتجلّى بمظاهر مختلفة غير أنّ الهلاك واحد. ولكن سأكون أكثر واقعيّة وأقول: حيثما تأخذني الدهشة، أخلع جسدي، أسجد في حضرة الذهول، وأنسى مكاني وزماني لأفرش وطناً من كلمات، ما زلت أعيش في عالم شعوذات الرواية بكلّي، وما زالت حبال السرد تلتقط أنفاسي وتجرّني نحوها من دون رحمة، غير أنّ الشعر قبض على ما تبقّى فيّ من رمق، واقتلعني منّي بذكاءٍ وحذق، ومدّ نحو عنقي أوتار موسيقاه وأحكم قبضته... وكم كان الاستسلام جميلاً! لا يهمّ تحت سطوة أيِّ شكلٍ منهما أقع.. أجد نفسي في الكتابة عموماً.. وحدها الكتابة هي الآلهة المقدّسة التي تحتاجُ إلى قرابين كثيرة كي ترضى، والجوعُ فيها لا حدودَ له! هيَ وحشٌ ينمو تحت جلدِ الأديبِ ومخدِّرٌ يبعثُ على الإدمانِ والهستيريا! كتبتُ الرواية أوّلاً، ولم يكن عمري يتجاوز الثالثة عشرة عندما أتممتُ عملي الأوّل «شعاعٌ في الليل الحالك»، ووقّعته في معرض الكتاب في البيال-بيروت، أحدّثك عن شيء حصل من عشرين عاماً. وقد قلت في مقابلة سابقة لي حول المفاضلة بين الشعر والرواية إنَّ الأمر صعبٌ وخطير، منذ فترة اعتزلت كلّ شيء وعشت بضعة أيّام أكتب فيها روايتي الجديدة، أعيش فيها علاقة توحّد مع الأبطال والشخوص والأحداث، أدخل سجني الانفراديّ طوعاً وشوقاً، وكنت أراقب الشعر من بعيد يتلصّص عليّ بثوبه الملكيّ من حين الى آخر، يدعوني إليه... وكنت على مسافة جنونٍ وحرفٍ منه... أنظر إليه وهو يمدّ حباله مستمسكاً باللاوعي المنسوج بالشوق واللهفة كي يلج عالمي، ويتنصت على زفراتي وخيانتي له مع الرواية ولكني لم أعطه وقتها إذن العبور... فقد أحكمت الرواية قبضتها عليّ في تلك الفترة.. وبعد أن انتهيت من الكتابة، تمنّع عنّي الشعر طويلاً، لم تكن استمالته من جديدٍ سهلة، تطلّب الأمر منّي نزفاً ووجعاً وتعباً كي أرضيه... أعترف أنّي أعشق الشعر وأدمن متعة المخاض الذي أعيشه قبل كلِّ ولادةٍ للقصيدة.. ولكنّ الرواية عالمٌ خطيرٌ وفتّاك، سحرٌ خاص، شيءٌ من شعوذات «يوسّا»، مع جموح «مورافيا»، وجنون «كازانتزاكيس»... خلطةٌ لا يشبهها شيء... نارٌ لا يمسّها الرماد. هويات قاتلة • هوية لبنانية، وجنسية فرنسية، وإقامة سعودية.. أين يمكن أن تجد سارة وطنها؟ •• يولد الشاعر غريباً بعد أن ينفصل عن رحم أمّه، وبعدها، لا وطن يؤويه، لا وطن يجمع شتاته، يحبّ كلّ شيء، ولا يجدُ نفسه في شيء، يجمعُ الذكريات والأحداث، ينتمي الى التراب، الى الأرض، تسكنه القرى ويسكنها، تسكنه المدن فتتشكّل منها قصائده وملامحه، غير أنّ غربته تبقى طاغية حدّ الوجع، حساسيّته المفرطة تمنع عنه طمأنينة البلاد والأوطان الوطن عندي هو رحم أمّي، ومنذ أن أُخرجتُ منها، ضعت، وتغرّبت وشرّدت؛ لذلك لجأت إلى رحم القصيدة! أعترف أن القصيدة تؤرقني، وتتعبني، وتشغلني، وأنني كثيراً ما أهرب من سطوتها وسيطرتها كي لا أسرّع في هلاكي، ولكنني من خلال القصيدة بنيتُ وطناً مجازيّاً جميلاً، وقد قلتُ في إحدى قصائدي: «أحتاجُ بلاداً لا تتركني في منتصف الخوف وحيدةْ! لا توقظني من نومي لتنام مكاني! لا تلبسني زيّاً فضفاضاً ثمّ تعرّيني من جلدي! أحتاجُ بلاداً لا أتسوّل فيها كي أتنفّسَ لا تطعنني في خاصرتي إن لوّح خصري للرقص ولا ترميني للمنفى كي أدفن من فوق الأسفلت!» القصيدة تتيح لي أن أشكّل الوطن بعيداً من خيبتي به! تتيح لي التحليق من دون حبالٍ مخفيّة تخنق معصمي وتجرح حنجرتي كلّما توهّمت لحناً مختلفاً للحياة! والخوفُ قدّيسٌ في عقيدتي الشعرية، وهو شاعرٌ حرّيف وخصب، على عكس ما يظنّه بعض من وجد فيه عقماً إبداعيّاً، الخوف لذيذٌ في تأويلاته، نهمٌ في خياله وطموحاته، عذبٌ في شجوه، سليطٌ في انفعاله، طفلٌ في تقلّباته، وبين كلّ هذه الأضداد، تنمو القصيدة مرتابةً وواثقةً! تجريد ومثالية • في أزمنة ما بعد الربيع العربي.. أليس جنوح الشعر العربي للمثالية والتجريد المبالغ يعبر عن ورطة ثقافية؟ •• لنكن صادقين في حقيقتنا.. الشعر هو محضُ مغالاة، هو تكثيف منهمر للأحاسيس والأشياء، غير أن وقعه يختلف من شخص لآخر، وقبل أيّ شيء، لا بدّ من التأكيد على ركيزة مهمّة، وهي أن الشاعر هو ابن بيئته، شاء أم أبى.. فإمّا يهرب منها وإمّا ينغمس فيها.. فالبعض منّا يعيش الشعر كنوع من الهروب من واقعه صوب عوالم أدفأ وأكثر مثالية فيصبح ضحية اتهامات تضعه في «برجه العاجي» الذي لم يختره، بل قاده إليه هروبٌ شعريّ قاسٍ ولذيذ في الوقت نفسه، والبعض الآخر يغرق في واقعه حدّ الجنون فيقع ضحيّة التفاصيل المريرة وسياسات البلد وآراء الناس والانتماءات وغير ذلك.. وفي كلا الحالتين، لن يستطيع الشاعر أن ينجو بنفسه.. هو هلاكٌ لا مناص منه.. الورطة الثقافية الحقيقية بالنسبة إليّ هي أن لا تكون هناك بيئة حاضنة لهذا الاختلاف، أن لا يواكب النقد ميزة كلّ حركة ليصوّبها ويستخرج منها ما يبني فكراً وقيَماً وحضارة! أمّا جنوح الشعر العربي للمثالية والتجريد المبالغ فيه في كثير من النصوص فهو بحدّ ذاته مبحث يحتاج الى تقصٍّ وبحث ودراسة ومتابعة لمعرفة مسبّبات هذا الجنوح، فإنّ لكل حركة أدبية مقدّمات دفعتها لتكون على الصورة التي هي عليه اليوم. • كيف للشعر أن يخترق حجب وسائل التواصل الاجتماعي؟ •• الشعر في أصله مخترقٌ كلّ الحجب.. أولَيس الوجود شعراً بتفاعيل وإيقاعات مختلفة؟! أليس الابتسامة قصيدة؟ الإحساس البكر حين يخترقنا من دون مقدّمات هو ديوانٌ من البحور الشعرية المتدفّقة بلا هوادة! الخوف والكره والحب والخير والشر والنعاس والتثاؤب والانفعال والحزن.. كلّها أوزانٌ شعريّة نعيش عليها ونتأنْسنُ من خلالها.. والشعر كما الحياة، لا بدّ له من مواءمة الحال والتماهي مع حركة التطوّر والحداثة واتخاذ التكنولوجيا وسيلة ليوصل من خلالها صوته إلى أوسع بقعة في الأرض.. ولكن، بين حرارة الأجساد والقلوب عند التلاقي والتّماسّ.. وبين جمود وسائل التواصل الاجتماعي وبرودتها بَون شاسعٌ وكبير.. الأمر ليس سهلاً أبداً.. وهو -واقعاً- سؤالٌ مربكٌ وحسّاس! كيف لي أن أضع نزفي وروحي في هذا العالم الافتراضي من دون خوف؟ أظنّ أن الإحساس الصادق كفيلٌ بأن يخترق كلّ شيء، وهو أشدُّ سلاح يحارب فيه الشاعر ليحرس مملكة شعريّته ووجوده! • هل ما زال للشعر عرشه الخاص الذي يقصده الناس؟ أم حان وقت الذهاب إلى الناس في «مخادع التواصل الاجتماعي»؟ •• للشعر طقوس مقدّسة.. لا يمكن حجب عرشه أبداً.. الصمت.. الإصغاء.. الخشوع.. التسليم.. الذوبان.. التجلّي.. الرقص! ثمّ همسٌ ساحر يسرقك من نفسك صوب المجهولِ اللذيذ! نعم ما زال الشعر مقصوداً، وما زال له عامٌ يحتفى به ويسمّى على اسمِ عرشه! «عام الشعر العربي» هو عام التمسّك بالفنون الأصيلة، بقيمة الأدب والثقافة والإيقاع والكلمة..! ولكنني مع فكرة أن نقترب من الناس بكلّ الوسائل.. أن ندخل إليهم من كل الأبواب، أن نفتح كلّ المجالات المتاحة للتلاقي.. ألّا ينحصر الشعر بالنخبويين.. ألّا يحتكر الشعراء وحدهم مجالس الشعر! الشعر نبضُ الحياة برقّتها وبساطتها وجنونها وصخبها وحزنها وحلوها ومرّها... الشعر للفلاحين، والعاملين، والبكّائين، والمهندسين والفنانين والمصوّرين والمعلّمين والأطباء والمساكين والأمراء.. فادخلوه من حيث شئتم! وانهلوا منه كيفما أردتم.. كلّ الوسائل متاحةٌ ومفتوحة.. وباب الشعر واسع.. لا يردّ سائلاً ولا مريداً..! • هل خفت صوت الشعر؟ •• للشِّعرِ أرواحٌ تطوف وتخشعُ وملائكٌ عند التجلّي رُكَّعُ! لا شيء بإمكانه أن يخفت صدى الحياة والوجود والبقاء! هذا هو الشعر.. لا يمكننا تحجيمه أو القبض على أوتار صوته كي نخفت أثره! هو أكبر من كيد الساعين إلى تحريف البوصلة وإمالتها صوب فنون أخرى.. السماء تتسع لكل الجمالات، ولكل الجميلين! ولكن من الممكن القول إنّ بعض الفنون حصلت، أخيراً، على انتشار أوسع، هذا وارد في كلّ زمن، وظهور فنٍّ بشكل بارز لا يعني تغيّب فنٍّ آخر، فالفنون والآداب تتلاقح ويتغذّى بعضها من بعض.. أولم يكن ليوناردو دافنشي رساماً وفيزيائيّاً؟! الخوف كلُّ الخوف من احتكار ما تبقّى في قلوبنا من متّسع لدهشة عذراء نقية! الآيدولوجيا والشعر • هل خفوت صوت الشعر يعود في أجزاء منه إلى خفوت صوت الأيدولوجيا في العالم العربي والإسلامي؟ •• صحيح أن الأيديولوجيّات تُحيي الشعوب والفنون، وقد تتغذّى محبرة بعض الشعراء عليها.. ولكننا لا ننسى أنها أمر مرتبط بالكلّ، وليس فقط بالشعر، فلو كان كذلك، لوجب أن يخفت صوت كلّ الفنون على حدٍّ سواء، لأنّ فكرة «الفنّ للفنّ» بحدِّ ذاتها أيديولوجيّا تخصّ أهلها حتى إن كنتُ شخصيّاً لا أؤمن بها.. عادةً ما يكون الأديب أسير حالتين لا ثالث لهما.. إمّا أن ينغمس بالواقع والقيم والأيديولوجيات والمثل والانتفاضات الدائمة والثورة واستنطاق المساكين المحتاجين، وإمّا أن ينعزل هرباً من ذلك كلّه صوب خياله المحصّن الذي يحميه من زيف الأحداث وقسوة الواقع وخيانةِ الظروف والأيام والناس فيتقوقع داخل موهبته ويكوّن لنفسه عالماً متخيًّلاً يؤويه ويحميه.. ولكن الحالة الأخيرة هذه إذا ما تمّت دراستها، ستشكّل نوعاً من أيديولوجيا تقوم على فكر الأديب أو الشاعر، ويبني بمقتضاها رؤاه نحو الحاضر والمستقبل. الجمهور السعودي • أقمتِ أمسيات عدة في المملكة العربية السعودية.. ما الأمسية الأحب إلى قلبكِ؟ •• كلّ الأمسيات تترك في نفسي أثراً مختلفاً، تزرع فيّ أملاً جديداً، أشعر معها بولادات لا نهائية، أتعلّم منها، وأعطيها وتعطيني، وأسقيها من دمي وأستقي منها طاقتي وقوّتي للمضيّ.. ولعلّ أحب أمسية إلى قلبي كانت الأمسية الأولى التي عرّفتني إلى السعودية وأهلها، وقد كانت من أربع سنوات في مركز الملك فهد الثقافي تحت عنوان «حيثُ لا ينتهي الشعر»، كانت ليلة مضيئةً بكلّ المقاييس، المقاعد مزدحمة بالوافدين، الحضور متنوّع ومائز، كل التفاصيل كانت شعريّةً بامتياز.. هذه الأمسية تركت أثراً خالداً في نفسي، لا شيء يضاهيه! • كيف تصفين لحظات التقائك بجمهورك في المملكة؟ •• أعترف أنني كنتُ أجهل المجتمع الخليجي عموماً والسعودي خصوصاً.. لم تكن لديّ فكرة حول مدى تقبّلهم لشخصيّتي التي لوّنتها بيروت بشتّى الألوان.. وطبعت فيها باريس خطوطاً عريضة، وسطّرت عليها ملامح امرأةٍ تجمع الشرق والغرب والانفتاح والتحفّظ في روح واحدة! وأعترف أيضاً أنني كنتُ معتادة على الجمهور الصدّاح الذي يطلبُ منّي أن أعيد البيت أكثر من مرّة، والذي لا يستطيع كبح جماح شعوره حين يصرخ «الله»، وحين يقف بين المتلقّين ويرفع صوته مادحاً أو مستشعراً بأبيات ثناء.. ولكنّني حين التقيت بالجمهور السعودي.. وجدت شيئاً مختلفاً تماماً عن كلّ ما اعتدته! جمهور هادئ ورصين، ذوّاقٌ مصغٍ ومهتمّ، مقبلٌ بروحه وجامحٌ جداً على الرغم من خجله الشديد، وسأكتفي بآخر اعتراف لأقول: لقد استطاع الجمهور السعودي أن يخترقني بقوّة، وأن يترك في قلبي وردةَ شعرٍ لا تذبل!.