في العام 2018، ذكر رئيس الوزراء العراقي الأسبق حيدر العبادي، أن بغداد ستلتزم بالعقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، مؤكداً أن بلاده لن تستطيع التعامل بالدولار إلا عن طريق البنك الفيدرالي الأمريكي واشتراطاته، ولن تستطيع الخروج عن المنظومة الاقتصادية العالمية لحماية مصالح شعبه؛ تعرض العبادي بعدها لانتقادات من قبل قوى عراقية حليفة لإيران، عدت هذا الموقف مخالفاً لمسار العلاقة بين العراقوإيران ومستويات هذا الارتباط (من وجهة نظرهم)، وذهب بعضهم إلى الاستغلال السياسي لهذا الموقف لإزاحة العبادي و(بدعم خارجي) عن تسنم رئاسة مجلس الوزراء لولاية ثانية، مما شكل سابقة في العملية السياسية بأن يكون الالتزام بمنع تهريب الدولار أو التعامل به مع دولة معاقبة أمريكياً سبباً في أن يكون مؤثراً بالقرار السيادي العراقي الخاص بأعلى منصب في السلطة التنفيذية في العراق. أشّرت تلك الحادثة دخول عامل آخر لخرق السيادة للدولة العراقية والمتمثل بالدولار الأمريكي وأثره في صناعة الأحداث والقرارات، فالسيادة كمفهوم هي مجموعة من الاختصاصات (ومن ضمنها السيادة على الأموال الوطنية)، تنفرد بها السلطة السياسية في الدولة وتجعل منها سلطة عليا تمكنها من فرض إرادتها داخلياً، وتعتبر ناقصة السيادة إذا شاركتها دولة أجنبية أو هيئة دولية في ممارسة اختصاصاتها الأساسية، ولهذا أصبحنا أمام سابقة تتمثل بتخادم داخلي - خارجي لمنع الدولة من ممارسة سيادتها واختصاصاتها الحصرية وأيضاً الثأر السياسي ممن يقف ضد مصالحهم. عادت أزمة الدولار في العراق لتتحول إلى مظهر جديد لخرق السيادة في حكومة محمد السوداني، بسبب عدم توقف التدافع بين الولاياتالمتحدةالأمريكيةوإيران عند حدود معينة، فوصول الدولار من العراق إلى إيران وسورية ولبنان وحتى روسيا، يشكل مصدر خطر وقلق لواشنطن لعدم نفاذ عقوباتها تجاه خصومها، ومؤشراً في جانب آخر على قدرة طهران على الالتفاف على إجراءات تقييد وصول الدولار لها، مما دفع واشنطن إلى إلزام بغداد بنظام مالي مقيد لحركة تحويل الدولار والحد من تهريبه، هذا الإلزام أزعج الإيرانيين ودفعهم إلى استخدام أوراق ضغط كوقف تصدير الطاقة الكهربائية والغاز للعراق بحجة عدم سداد العراق ديونه التي قاربت 11 مليار دولار في وقت انهيار منظومة إنتاج الطاقة الكهربائية العراقية، وحفز من جانب آخر حلفاءها المشكلين لحكومة السوداني على مهاجمة واشنطن وفق ما اعتبروه خرقاً لسيادة العراق من خلال التحكم بأمواله، الأمر الذي انعكس على حرج كبير في الطريقة التي يمكن أن يعالج فيها السوداني هذا التحدي المزدوج، فهو لا يريد خسارة الدولتين المؤثرتين في المشهد السياسي العراقي. لم يعد صراع الإلزام بالشروط الأمريكية بوقف تهريب الدولار وغسل الأموال أو رغبات الدول والجهات الخارجية في الحصول على سيولة دولارية بطرق رسمية أو غير رسمية، هو التحدي الوحيد لحكومة السوداني، بل إن فوضى السوق الموازية للحصول على الدولار وعدم القدرة على ضبط سعر صرفه وأثر ذلك بانهيار قيمة الدينار أصبحت تشكل معركة سيادة داخلية، خصوصاً أن صانع القرار في بغداد لم ينجح إلى الآن بفرض إجراءات يمكن من خلالها إشعار المواطن بقدرته على تحقيق سيادة مطلقة للدولة على السياسة المالية رغم كل الوعود؛ فارتفاع الأسعار للمواد الأساسية في الأسواق وانخفاض قيمة رواتب موظفي الدولة بنسبة 17% وفقدان الثقة بالنظام المصرفي العراقي، بعد معاقبة 14 مصرفاً من قبل واشنطن متهمة بتهريب الدولار، والركود الذي أصاب الاقتصاد؛ دفعت إلى زيادة نسب الفقر والبطالة وإلى زيادة الشعور بتناقص فرص الحلول لتغيير الواقع الحياتي، وهذا أيضاً يولّد حالة من عدم الشعور بسيادة الدولة. إن أمام رئيس مجلس الوزراء السوداني مسؤولية وطنية ودستورية للتعاطي مع هذا العامل الجديد الذي يخرق السيادة، تملي عليه أن يقوم برسم السياسة العامة التي تحتم الالتزام ما يضمن المصالح العليا للبلد والشعب، فأي انهيار أو عدم قدرة على ضبط حركة الأموال داخلياً وخارجياً سيكون كارثياً على الاقتصاد والأمن والمجتمع والسيادة.