يكسو الشاعر الفلسطيني موسى حوامدة، القصيدة العربية الحديثة، هيبةً إضافيةً، ووقارًا، لتتلبس مريده حالة خشوع؛ حال السماع والتلقّي، فشِعره أبلغ من محاولات، وأعمق من تجريب، ونصه يخرج من تنور روحه طازجًا شهيًّا، منذ (شغب) وهو ثائرٌ على ما كتب، متمكنٌ من الرؤيوية، متصاعدًا بطموح يمنح البحور جسدًا، والقصائد أردية، وهنا نص حوارنا معه: • بمناسبة يوم الشعر العالمي كيف ترى واقع الشعر العربي وما حال الشعراء؟ •• أيها الشعر يا ربيب روحي في مدرسة «السَموع» يا ملعبَ الطفولةِ يا وجهَ المعلم المتأنق، يا لَطول الطريق الممتدِّ من البيت حتى مِغزل الحاجة (مليحة) اغزلي يا أمي غزلَكِ الكنعاني اربطي لونَ البحر بلون التراب حكمةَ الإغريقيات بإبرة الفلسطينية، أضيفي لوجبة الطعام صحنًا سابعًا ما همَّ أن نفدَ الطعامُ وغزلُك يكتمل ما هم إن لم أجدْ بقايا الغداء واصلي نشيدَك الرعويَّ فوق خطى ملايين الأجداد من سومر إلى يبوس واصلي يا بلادي أنينَكَ المَلْحمي. يا وجهَ الجَدةِ البعيد لم أحتفظْ بخيوطِ ثوبِك المعفَّرِ بغبار الدهور احتفظتُ بصوت بقايا أوراقِ التين والعنب وأرواحِ الذين ماتوا من أشجار الكروم. بصراحة كرهت يوم الشعر وكل المناسبات والأعياد لكثرة ما تم تكرارها وتسطيحها، وصار يوم الشعر مناسبة يتيمة لاستذكار الشعر بشكل ممجوج ومعاد، وبشكل ظاهري شكلاني فقط بينما في الجوهر تتراجع الشعرية والمستوى الجمالي للشعر، وتكثر أطنان الكلام الذي يتشبه بالشعر من ناحية الشكل فقط. • ما الذي ينقص الشعر، وما وجهة نظرك بتغيير تسميته ديوان العرب؟ •• كلمة ديوان تعني كتابة تاريخ، أو تدوين مآثر، أو يوميات أمة أو شعب ما، وهي تصلح لنا كأمة، وربما يكون في هذا التعبير نوع من الدقة والتعريف الصحيح للشعر، وتم الاتكاء كثيرًا على الشعر العربي القديم في علم النحو والصرف والبلاغة، وحتى في تفسير القرآن وتفسير ما التبس من أحكام شرعية وأحاديث نبوية، ربما يقول قائل إن ديوان الشعر كان صالحًا للزمن الذي لم تكن فيه الرواية والقصة القصيرة والسرد بما هو عليه اليوم، وكذلك وسائل التدوين المختلفة ووسائل الاتصال المتعددة، وهذا صحيح، ولا أريد أن أقول إن الشعر ما زال ديوان العرب حتى اليوم، فقد لحق بهذا الفهم تغييرات كثيرة وعميقة، لكن الشعر كقيمة لم يفقد معناه، والتجديد الذي وقع فيه، والتطور الذي اعترى الكتابة الشعرية العربية هو ما نفع الشعر وجعله معاصرًا ومناسبًا، وحال دون انقراضه أو وضعه في متحف التاريخ. أما ما الذي ينقص الشعر كما ورد في السؤال فلا أدري ما الذي ينقصه، سواء من ناحية التلقي والاهتمام الاجتماعي فيه، أو من ناحية كتابته، أنا شخصيًا لم أفكر بتعويض ما ينقص الشعر في كتابتي له، وكان تركيزي منصبًا خلال ما كتبته من قصائد على التعبير شعريًا عما كان ينقصني وأشعر أنني بحاجة لقوله وكتابته، التخطيط يتنافى مع روح الشعر التي تنبعث من غموض داخل النفس البشرية. • هل تخلى الآباء الشعريون عن أولادهم وتركوهم في مهب الريح؟ •• نعم في قصيدة النثر وفي القصيدة الحديثة كان الشعراء أيتامًا ليس لهم أسلاف أو آباء، وكان هذا اليتم ضروريًا للتحديث والتجديد في القصيدة والشعرية العربية، بل كان قتل الأب ضرورة فنية، كان لا بد من العقوق، لتظهر قصيدة النثر التي لا تقبل الآباء ولا تريد خلق آباء جدد حتى من الأبناء أنفسهم، وفلسفتها لا تقوم على قتل الأب فقط بل وحتى الابن لاحقًا كي لا يكون أبًا لنفسه أيضًا. ومن يتكئ على سواه تخذله قصيدة النثر، وتلقي به عن سدتها كما تلقي الفرس الأصيلة فارسها غير المتمكن. • ماذا استفادت تجربتك من الحداثة؟ •• كثيرًا، بل كلها قائمة على التحديث والتجريب ولو أني لم أتمرد على النمطية وحتى على القصيدة التي كتبتها في بداية تجربتي باستمرار، لظللت حبيس النمط الأول، وحتى اليوم لا أتشبث بنمط حتى من تلك القصائد التي كتبتها، وأترك القصيدة حرة، كي أظل حرًا، وتظل قصيدتي حرة حتى من شقيقاتها، فالتمرد عندي مختبر قائم بذاته وماض، ولا أسعى لاختراع النظرية النسبية في الكتابة. • ماذا بقي من ينابيعك الأولى؟ •• سراب أو قل بعض الوهم الذي يزين لي الطفولة ويعطيني بعض النار التي ما زالت تشتعل، أخشى إن تخليت عن تلك الينابيع أو جفت أن تجف القريحة والموهبة، ومع ذلك لا أتشبث بها إن هي رغبت في المغادرة، فلا يجوز أن أكون حرًا من داخلي، تقليديًا في الحفاظ على الأنا السحيقة في العناء. • لمن تقرأ شعراً وما أفتن الشعراء الساكنين ذاكرتك وروحك؟ •• لا أترك ما يقع بين يدي من شعر ودواوين ومجموعات وحتى ما يترجم من شعر، لكني لا أشحن روحي بالشعر فقط بل بالحياة، وبالفلسفة وبالكثير من الفنون والموسيقى وحتى العلوم، أما الشعراء الذين يسكنون روحي فهم كثر من أبي نواس وديك الجن الحمصي وفهد العسكر وعرار وعمر ابن أبي ربيعة وأبي تمام والمتنبي وبابلو نيرودا ولوركا وأمل دنقل وصلاح عبدالصبور وحتى أنسي الحاج وقاسم حداد ونزيه أبي عفش وسركون بولص وسيف الرحبي ومحمد الثبيتي ومريد البرغوثي وغيرهم. • ما دور النقد مع الشاعر والمتلّقي؟ •• لا شك أن النقد يصنع مشروعًا جماليًا للذائقة الشعرية سواء للمتلقي أو للشاعر، أنا لا أتحدث عن النقد الصحفي والانطباعي أتحدث عن المشاريع النقدية العربية وما يصب ويغذي هذا النهر المتدفق، وإن أردت أن أذكر لك الأسماء فأقول كمال أبو ديب وعبدالله الغذامي وجابر عصفور والدكتور صلاح فضل ولا أنسى إحسان عباس والجيل المؤسس. • لماذا (سأمضي إلى العدم) أليس الوجود أجمل؟ •• نعم الوجود أجمل، لذلك استخدمت السين في العنوان وهي حالة مؤجلة وربما ستكون محزنة لأني أغادر الوجود دون أن أتمكن من رؤيته كما توهمت، وكما ظننت أن بإمكاني تغييره، لذلك سأحول التمتع بما هو جميل في الوجود، فما بعد الوجود إلا العدم، وربما لشدة تعلقي بالحياة أخشى عليها من العدم، لا أعرف، لكن العنوان كان عنوان إحدى القصائد. • كيف ترى وصف البعض حسك الشعري بالعرفاني؟ وهل له جذور؟ •• هذا قريب من الحقيقة، أو لنقل فيه شيء من الصحة، ولعل المنطلق الشعري أقرب إلى الطريقة العرفانية الصوفية منه للمنطق والعقل، في الكثير مما كتبت شطح أقرب إلى شطح المتصوفة، ولا أخفي إعجابي حتى اليوم بالكثير من المتصوفة وعلى رأسهم الشيخ محيي الدين بن عربي وعبدالجبار النفري والحلاج وعمر بن الفارض وحتى أبي عطاء السكندري وغيرهم، ويبدو لي أني في طفولتي وبداية حياتي كنت أرى الكثير من الآثار العرفانية، كوني ولدت في قرية زراعية ورعوية بسيطة، كان أهلها يفهمون الدين بقلوبهم، وليس بعقولهم، وكان كثير منهم يصلون ويقيمون الشعائر الدينية بطريقة عشق وحب وليس على الطريقة المتزمتة التي نراها اليوم، وأحببت طريقة القفز على الحقائق والأوضاع الصعبة التي كنا نعيشها تحت الاحتلال بطريقة العرفانيين في تفسير الأحداث والهزيمة، ولا أنكر أنني ابن ثقافة دينية إسلامية مهما تحررنا منها تظل في مجتمعاتنا وحياتنا بشكل أو بآخر. • ماذا تعنى لك العلاقة بالمملكة وبشعرائها، ومن المختلف والمتميز واللافت شعرياً؟ •• ليس بشعرائها فقط، فأنا أعرف الكثير من المثقفين والمبدعين السعوديين من روائيين وشعراء وكتّاب ومبدعين، وللحداثة في السعودية مذاق مختلف، كنت أقرأ للعديد من الشعراء وكُتّاب المملكة، وعلى عكس ما كان يعتقد البعض، كنت أرى أن المبدعين السعوديين يفهمون الحداثة بشكل أفضل من غيرهم. محمد الثبيتي مثالًا؛ فهم سبّاقون لهذه الحداثة بشكل أعمق، ولا أغفل عن ذكر الغذامي كناقد صاحب مشروع، ومرزوق بن تنباك؛ وعبده خال وأحمد أبو دهمان وحسن علوان وزينب حفني، ويوسف المحاميد، وهدى الدغفق، وفوزية أبو خالد الشاعرة العربية المتميزة، وثريا العريض وبديعة كشغري وهيلدا إسماعيل، وعبدالله الصيخان ومحمد جبر الحربي، وخديجة العمري، وعلي الدميني الذي أتمنى له الشفاء العاجل، وشقيقه محمد الدميني، ومن الأجيال الحديثة التي أقرأ لها بشغف محمد الحرز وأحمد الملا عبدالله السفر وإبراهيم الوافي.