سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
حديث الأدب والسياسة والذكريات في "مقهى الفينيق" . عبد الوهاب البياتي : أدونيس أبعد ما يكون عن الحداثة وقراء الشعر هم النخبة الارستقراطية في الثقافة العربية 1 من 2
"انحسر بعض الشعراء ولم ينحسر زمن الشعر"، بهذه الكلمات تحدّث عبد الوهاب البياتي في مناسبة صدور مختارات من شعره عن "الهيئة العامة لقصور الثقافة" في القاهرة بعنوان "نهر المجرّة". وصاحب "أباريق مهشّمة" و"كتاب المراثي" تكلّم كعادته بصراحة، مذكّراً أن "السلطة هي السلطة في كل زمان ومكان، ومن ليس معها تعتبره ضدّها". في معتكفه في مقهى "الفينيق" يضبط رواد المقهى ساعاتهم على طلّة عبدالوهاب البياتي في السادسة من كل مساء. يجلس الشاعر إلى طاولته المعتادة في ركن مواجه لبوابة المقهى. وسرعان ما يتحلّق حوله أدباء وشعراء أكثرهم من العراقيين، ويمضون ساعات في استعراض الأحداث والقضايا الأدبية والسياسية، ثم لا يلبث الشمل أن ينفضّ، إلى مكان آخر لتمضية بقية السهرة. أبو علي الذي يقيم في عمان منذ ثماني سنوات، شأنه شأن شعراء بارزين مثل محمود درويش وسعدي يوسف، لا يكاد يشارك في الحياة الثقافية الاردنية. بل يكتفي باستفتاء أدبي تجريه هذه الصحيفة أو تلك المجلة بين مناسبة ثقافية وأخرى. ويحرص على مراقبة المشهد الثقافي في الأردن من دون التوغل فيه او إصدار أحكام في شأنه، ولعل ذلك أتاح له اقامة شبكة من العلاقات الثقافية مع مختلف الأدباء في الاردن. في "الفينيق" إذاً التقينا البياتي. وعلى امتداد الجلسات التي استغرقها هذا الحوار، كان متدفقاً كينبوع في حديثه... لكنه تحفّظ عن نشر وقائع مهمة رواها ل "الوسط" عن علاقة الشعر بالسلطة، وقال "ربما أسمح بنشرها بعد عامين، لان الوضع الآن غير مناسب". فاحترمنا رغبة الشاعر الذي تنقل بحرية بين أقاليم السيرة والابداع والهمّ الوجودي وهواجس اللحظة الثقافية العربية الراهنة. كيف تدفق لديك نبع القصيدة ؟ هل كان لطفولتك أثر في اختيار هذه الدرب؟ وهل بمقدورك استحضار صورة الطفل الذي كنته؟ - كنت منذ طفولتي أميل إلى العزلة، وألوذ بالحدائق والغابات. من بيت جدي كنتُ أتأمل السماء والطيور، خصوصاً في فصول هجراتها. كنتُ أحس بإيقاع داخلي لا أدري ما هو، لأن ذلك الايقاع كان بلا لغة، وهذا كان يشكّل لي وجعاً كبيراً وحيرة وعدم قدرة على التأقلم مع الأشياء. وعندما بلغت الرابعة عشرة، بدأت بقراءات جديدة تختلف عن قراءاتي السابقة، وكانت حتى ذلك الوقت تقتصر على الكتب الدينية، خصوصاً التي تتناول التصوّف مثل كتابات ابن عربي والشبلي والحلاّج والشيخ عبدالقادر الكيلاني التي كانت تكتظ بها مكتبة جدي. وكنت أستمع أحياناً إليه وهو يقرأ في تلك الكتب. أما المرحلة الجديدة، فبدأت بجبران وأقرانه من كُتّاب تلك السنوات. وكنت أحسّ بضياع شديد وأنا أنتقل من كتاب إلى آخر، إذ انني لم أجد أي جواب على الأسئلة المحرقة التي كانت تتقد في صدري. وهذا ما ساعدني على كثرة القراءة، كما علّمني كيف أنتقي الكتب المفيدة. فصرت مثلاً أبدأ بقراءة صفحة من أول الكتاب وثانية من منتصفه، فأكتشف قيمته وجدواه، وأمضي في قراءاته بصورة وافية. عمّا أسفرت تلك التلمّسات الأولى؟ - أوصلتني إلى القصيدة الأولى. والغريب أن عدد أبياتها كان يساوي سنوات عمري الأربعة عشرة. كانت قصيدة عمودية، تنتهي بقافية الراء الساكنة، ولا أتذكر الآن منها أي بيت. وضعت القصيدة داخل أحد كتبي المدرسية، وذات يوم تناول الأستاذ الكتاب لكي يقرأ علينا منه، فوقعت الورقة على الأرض. فالتقطها ونظر فيها وقال: "لمن القصيدة؟". أجبتهه بخجل أنني انا الذي كتبتها، فقال: "سآخذ القصيدة وأعيدها اليك غداً". وفي اليوم التالي أعاد لي القصيدة مكتشفاً فيها ثلاث أغلاط، ولم تكن أغلاطاً نحوية أو عَروضية، بل كانت اخطاء في "الإقواء" كما سماه. وعندما سألت، بعد ذلك، ما هو الإقواء، قيل لي: انه حركة الحرف قبل الأخير من القافية. لكن الأستاذ أثنى عليّ كثيراً أمام الطلبة، ودعاني إلى المضي في الكتابة، ونصحني بقراءة كتاب "الأغاني" لأبي فرج الاصفهاني، وأشعار القدامى مثل المتنبي والمعري وأبي تمام والبحتري. وعندما سألته: "وأبو نواس؟"، قال: "لا، دعك من هذا، فهو شيطان ماكر!". وسألت عن السبب، فجاءني جوابه: "ستعرف هذا في المستقبل!". كان الاستاذ شديد التديّن، لكنه كان منفتح الذهن، بهذا الشكل أو ذاك. وبعد رائيتك؟ - توالت قصائد أخرى كثيرة، لكني كنت أحسّ بأنها لا تعبّر عن حالة الاغتراب الروحي الذي يتملكني. وكنت أحسّ بهوّة شاهقة بين ما أكتبه وبين اللغة. فإحساسي كان يختلف تمام الاختلاف عن القصائد، حتى انني كنت أسخر أحياناً مما أكتب، وأشعر أنني لست صاحبها الفعلي... لأنني كنت قد قرأت أن الشاعر يعبّر عن تجاربه وعالمه الخاص، ولا يستعير كلماته من حبر الآخرين. وإلى أين دفعك هذا الشعور؟ - دفعني إلى مزيد من القراءة وحبّ الاطلاع. وجعلني أنتقل من قصيدة إلى أخرى من دون جدوى، حتى انني شبّهت نفسي في تلك الفترة بمسافر لا يقصد محطة بعينها، ولا يرى من نافذة القطار ما يمرّ به من مزارع وأشجار ومناظر مختلفة. كنت أشبه أعمى يبحث عن شيء ولا يجده. وانعكست بعض ظلال هذه المرحلة في قصائد ديواني الاول "ملائكة و شياطين" الذي بدأت بكتابته سنة 1949، وفرغت منه بعد تخرجي من دار المعلمين العالية سنة 1950. حريق في غابة الشعر وما هي الاستحقاقات الأدبية التي فرضها عليك صدور ديوانك الأوّل؟ - شعرت بمسؤولية أكبر، اذ ان أنظار المهتمين بالشعر، في العراق بشكل خاص، صارت تتابعني وتراقب ما أكتب. وساعدني على الانتقال إلى مرحلة جديدة، وجودي في مدينة "الرمادي" الصحراوية التي كان يُرسل إليها المعتقلون السياسيون. كنت أحسّ هناك بوحشة قاتلة، فأُقاوم، وأقاتل تلك الوحشة بالقراءة. هكذا طالعتُ كتباً لا حصر لها، وأعمالاً متنوعة ومنتقاة. إذ انني كنت مع الكثيرين من اصدقائي، من أدباء تلك السنوات وشعرائها، نتبادل الكتب والخبرات عن طريق الرسائل، أو بصورة مباشرة. ولهذا فان القصائد التي بدأت تنشر لي بعد العام 1950، أخذت تلفت النظر إليّ بشكل نهائي وجاد. حتى أن رئيس تحرير مجلة "الاديب" اللبنانية آنذاك الشاعر ألبير أديب، كتب إليّ يستحثني على ارسال المزيد من قصائدي الجديدة، وراح ينشرها في الصفحات الأولى من مجلته. وكذلك كان الأمر بالنسبة إلى المجلات المصرية مثل "الرسالة" و"الثقافة"، حتى أن بعض الدراسات كتبت عن هذه القصائد الجديدة قبل صدورها في ديوان. وفي العام 1954 صدرت الطبعة الأولى من مجموعتي الشعرية الثانية "أباريق مهشّمة"، وفيها القصائد التي كتبتها بين 1950 و1954، فأحدث صدور الديوان ما يشبه الحريق في غابة الشعر. إذ تولت معظم المجلات الادبية الحديث عنه، ودارت حوله معارك أدبية، وكنت اقرأ ما يُكتب وأبتسم، وأقول في نفسي: هل هذا أنا؟ وهل اقتصرت ردود الفعل على هذا الجانب؟ - ليتها اقتصرت عليه. فقد لفت ديوان "أباريق مهشّمة" نظر السلطة الحاكمة في بغداد آنذاك، مع العلم انّه لا يضمّ سوى نذر يسير من القصائد السياسية. فبدأت تحاصرني، وتحصي عليّ أنفاسي، لأن علاقاتي كانت واسعة وقوية مع معظم القوى الوطنية الموجودة في الساحة في تلك الفترة. فهذه الأخيرة اهتمت بديواني، وفضّلته عن كل ما كان يُكتب خلال تلك السنوات. ثم أُعيد طبع الديوان سنة 1955 في بيروت فمنعت السلطات دخوله إلى العراق. وفي العام نفسه صدر كتاب الدكتور احسان عباس "عبدالوهاب البياتي والشعر العراقي الحديث"، فزاد تأجج النيران واحتدام المعارك بين الأنصار والخصوم. أما الأنصار كانوا كثيرين، يفوق عددهم الخصوم ومعظمهم من الشعراء الفاشلين، أو بعض أصدقائهم الذين أطلقوا حرب الوشايات، وبدأوا يحيكون ضدي المؤامرات. لكني لم أُعرْ اهتماماً لكل ما كان يجري، فقد كنتُ منتشياً بانتصاري، ومنشغلاً بالتفكير في مشاريعي الشعرية المقبلة. نيرودا وستالين كنتَ واحداً من المثقفين العراقيين القلائل الذين لم ينتسبوا في ذلك الوقت إلى أي حزب... - على رغم الصراعات الحزبية والسياسية والبركان الذي كان يعتلج في أحشاء المجتمع العراقي، كنت أعرف أين هي الألغام التي قد تودي بشاعرية الشاعر. ولعل الأفكار التقدمية حمتني من مغبة الاحتماء بهذا الحزب أو ذاك، إذ لم أكن أحتاج إلى شهادة من أحد. فقوة شعري ومحبة قرائي منحتاني القدرة على مقاومة الانزلاق والدخول في أتون الصراع الدائر آنذاك بين القوى السياسية. لكن السلطة هي السلطة في كل زمان ومكان، ومن لم يكن معها كانت تعتبره ضدّها. وما وقع عليّ من بلاء وكوارث كان بسبب هذه النظرة الغبية المعادية للثقافة والتقدم، وهذا أمر طبيعي من سلطة متخلفة كانت تحكم في تلك السنوات، وأعتقد أن الشاعر حزب كبير ينضوي تحت جناحيه مئات بل آلاف القراء والأنصار. أما انضواء الشعراء إلى الأحزاب، فكان ظاهرة من ظواهر القرن العشرين، خصوصاً بين الحربين العالميتين. وهذه الظاهرة كانت وراء الترويج لشعراء ينتمون إلى التيارات السياسية، فيما دفعت بعض الشعراء إلى الانتحار او الضياع او اهدار مواهبهم. وكلنا يتذكر الشعراء الذين مدحوا ستالين وشبّهوه بشمس العالم، كما شبّه المتنبي كافور الاخشيدي بالشمس المنيرة السوداء. لكن عظمة شاعرية المتنبي وقوتها تغفر له مثل هذا المديح، وكذلك الأمر بالنسبة إلى شاعر مثل بابلو نيرودا. فالأخير مدح ستالين ثم أنكر القصيدة فيما بعد، ولم يعد ينشرها في طبعات دواوينه. وهذا يعني أنه وقع في الخطيئة، وأراد أن يتوب، لأنه شاعر عظيم. أما الشعراء الوضيعون، فلا يشعرون بالندم مهما ارتكبوا من صغائر. قلتَ إن أفكارك التقدمية حمتك من الوقوع تحت وصايةحزبية. كيف جاءتك هذه الأفكار؟ وما الينابيع التي نهلت منها؟ - هذه الأفكار رافقتني منذ طفولتي. وينابيعها البؤس والفقر والجوع التي كنت أشاهد علاماتها بأم عيني، ولا أرى من يثور على هذه المظالم. لقد ولدت ونشأت في محلة باب الشيخ التي يقع فيها مسجد الشيخ عبدالقادر الكيلاني، وهو من المتصوفة الكبار كان الفقراء يلوذون بضريحه. كما عمّق هذه الأفكار مشهدُ البؤس والموت والخراب الذي كان يحدق بالمجتمع العراقي الواقع في ذلك الوقت في براثن الاقطاع والحكم المحلي والأجنبي والشركات الاحتكارية الأجنبية. لقد كان الشعب العراقي برمته فقيراً باستثناء العوائل الاقطاعية أو ورثة الحكم العثماني. وهذا الوضع، إضافة إلى قراءاتي المبكرة فتّح عينيّ على أشياء، وسلّحني بأفكار كثيرة عن العدالة الاجتماعية والحرية وحقوق الانسان التي كانت غائبة عن قاموس حياتنا في تلك السنوات. عُرفت بعلاقاتك الوطيدة بالشيوعيين ذلك الحين. فماذا تقصد بالاستقلاليّة؟ - كنت قريباً من اليساريين، وكانت لي معهم صلات ثقافية متينة. ولكنني لم أنتمِ إلى أحزابهم. عملت، على سبيل المثال، محرراً للقسم الثقافي في مجلة "الثقافة الجديدة"، وكان يصدرها اليساريون العراقيون الذين درسوا في فرنسا وتخرجوا في جامعاتها، ولهم صلات بالحزب الشيوعي الفرنسي. وعلى الرغم من العروض الكثيرة التي قدمت إلي للانتساب إلى الحزب الشيوعي، كنت أعتذر بصراحة، لأنني شاعر ولا أحب العمل السياسي المباشر الذي يستغرق عمل الانسان ويحوّله الى آلة أو مسمار في ماكنة كبيرة. كان العمل الحزبي في تلك السنوات شاقاً، وأنا أتوق إلى الحرية الكاملة. وكانت القوى الوطنية اليسارية العراقية تقدر موقفي هذا جيداً، حتى انني انتخبت لكي أمثل العراق في مجلس السلم العالمي عام 1958، وهو مؤتمر ضم الشعراء والكتّاب والفنانين من شتى أنحاء العالم، وكان منهم: رفائيل ألبرتي، وبابلو نيرودا، ولوي أراغون، وبابلو بيكاسو، وناظم حكمت، وسواهم من كبار المبدعين في العالم. وهل كانت لك علاقة شخصية مباشرة مع هؤلاء المبدعين؟ - لا، لم أكن أعرفهم إلا بالاسماء، مع انني كنت ترجمت لبعضهم مثل بابلو نيرودا وناظم حكمت وأراغون. وعندما التقينا احتفوا بي احتفاء كبيراً، وقد ساعدني على معرفتهم صديقي الكاتب اللبناني كريم مروة الذي كان يعمل في مجلس السلم العالمي آنذاك. جدل بيزنطي ينتمي شعرك إلى نظام التفعيلة في معظم نماذجه. هل كتبتَ قصيدة النثر، وما موقفك منها؟ - عندما أقرأ الشعر لا أنظر إلى الشكل الذي كُتب فيه، ويكون محط نظري الحداثة والشعرية الكامنة في ما أقرأ. أما الأشكال كلاسيكية، تفعيلة، نثر... فلا معنى لها إذا لم يتوافر فيها الشرطان السابقان. ولهذا أعتقد أن الجدل البيزنطي الذي يقوم أحياناً في الصحف والمجلات لا معنى له، فهو يعني تفضيل الأشياء بمظهرها، لا بما تنطوي عليه، وكتابة النثر الشعري صعبة جداً، أو تتطلب المقومات الأساسية نفسها للكتابة الشعرية، أي التجربة الوجودية العميقة، وفنية القصيدة أو تقنيتها والترابط غير المرئي لأبياتها وكلماتها. ومن هذا المنطلق وحده أتعامل مع الشعر، جاهلياً كان أم عباسياً أم حديثاً... هل يستطيع من يكتب الشعر الحديث المتمثل في التفعيلة مثلي، أن يغفل ابداعات الجواهري وعمر أبو ريشة وسعيد عقل وإلياس أبو شبكة... فعندما يقرأ المرء قصائد "أفاعي الفردوس" التي تعتبر من الروائع الخالدة في الشعر العربي، لا يتوقف عند كونها عمودية أو غير عموديّة. لقد استطاع أبو شبكة أن يخترق كينونة اللغة، وكينونة التجربة الانسانية، وأن ينقل لنا الثراء الروحي والشعري لتجربته. وأكرر أن كتابة قصيدة النثر أمر لا يقدر عليه الا من يمتلك ثقافة واسعة ترتكز على معطيات الوجود والفلسفة والتجربة الانسانية العميقة. وأذكر أنني كتبت قصيدة نثرية طويلة نشرت في ديواني "كلمات لا تموت"، ونالت اعجاباً كبيراً لدى القراء، لكن ناشر الطبعة الثانية من الديوان حذفها لسبب لا أعرفه حتى الآن، وأفكر مستقبلاً أن أعيد طبعها مستقلة في كتاب. والنثر الذي كتبته في "ينابيع الشمس/ السيرة الشعرية" و"مدن ورجال ومتاهات"، قد يتضمن المعاصرة والشعرية بشكل دقيق وعميق. فأنا أتطرّق لجميع الأشكال التي تخدم تجربتي، ولا أفضل شكلاً منها على الآخر. في احدى قصائد ديواني "كتاب البحر"، وعنوانها "الرحيل إلى مدن العشق"، ثمة مقاطع عمودية، وأخرى تخضع للتفعيلة، وثالثة نثرية... ولكن القارئ لا يحسُّ بصعوبة الانتقال بين هذه العناصر المجتمعة. ومن برأيك أبرز ممثلي قصيدة النثر في الشعر العربي؟ - أبرز من قرأت لهم، محمد الماغوط وأنسي الحاج وعباس بيضون. الشعر العربي بخير هناك من يعتبر أن زمن الشعر انحسر لمصلحة فنون أدبية أخرى كالرواية مثلاً... ما رأيك بوجهة النظر تلك؟ - لم ينحسر زمن الشعر، بل انحسر بعض الشعراء، وربما نحسّ بهذا الأمر ونهجس به لأن المبدعين قلة. وهذه ظاهرة تبرز في كل العصور. لكن من يحضر أمسية لأحد الشعراء الجيدين أمثال محمود درويش، يدرك أن الشعر العربي بخير وعافية، وأن قراء الشعر يختلفون عن جمهور المطربين. فهم النخبة الارستقراطية في الثقافة العربية، ولا أقصد بالارستقراطية المكانة الاجتماعية أو المادية، بل الرهافة والتمايز والذوق، أي المكانة الثقافية. فالشعر فن صعب، ويحتاج متلقيه إلى مقدرة روحية عالية، لأن القصيدة الحديثة تطورت من حال إلى حال ووصلت إلى مرحلة النضج، ولم تعد نفثة رومانسية، أو تعليقاً على ما جرى ويجري، أو تعبيراً عن الأمثال والحِكَم والعظات. لقد تركت القصيدة العربية كل هذا وراءها، ودخلت مرحلة قلما وصل إليها شعرنا في عصوره كافة. فهاجس الشاعر العربي هاجس قومي وكوني وإنساني. كيف تنظر إلى مفهوم الحداثة في الشعر العربي المعاصر؟ ما مدى دقة هذا المصطلح؟ وهل هناك اجماع ما على معنى محدد للحداثة؟ - عن أية حداثة يتكلّمون؟ هناك حداثات، منها ما هو زماني ومنها ما هو مكاني، وهناك حداثة فرنسية وانكليزية وأميركية... إلخ. فالحداثة أشبه بالحتمية الفنية التي تظهر في حركة الشعر، وتدعو إلى تجديده. لذا فإن حداثة أبي تمام، مثلاً، لم تكن حداثة مكتملة، لأن الموروث الذي تواصل معه أبو تمام طغى على حداثته. ومن هنا أن الحداثة في قصائد هذا الشاعر العظيم تبدو أشبه بالضباب الذي يغطي سطح النهر في الفجر. وسبب ذلك في اعتقادي أن أبا تمام لم يكن منقطعاً لكتابة الشعر من أجل الشعر، بل وظف قصيدته في المديح والرثاء والهجاء. وكانت قصائده مكتملة في هذه الموضوعات، حتى أن بعض النقاد اعتبر أن حداثة أبي تمام حداثة لفظية أكثر منها وجودية تنتج عن ارتطام الكائن بالوجود. فقصيدته كانت موظفة في الأصل لخدمة قضية سياسية أو اجتماعية، ولو حاول اختراق كينونة الأشياء من دون المرور بهذه المحطات لاستطاع أن يكون أكبر المجددين في الشعر العربي. ما رأيك بمشروع أدونيس أحد أبرز المنشغلين بقضايا الحداثة، تنظيراً وابداعاً؟ - قد يكون أدونيس مجدداً على طريقة أبي تمام. فحداثته ليست لها جذور فلسفية أو وجودية، بل تنطلق من الكلمة إلى الكلمة، ومن اللفظ إلى اللفظ، وليس وراء هذه الكلمات وتلك الألفاظ أي معاناة حقيقية. فالحداثة أو التجديد يأتيان من المعاناة الروحية والمادية معاً، ينطلقان من شراك الشرط اللا إنساني، ومن براثن الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للثورة عليها. تتحرّك القصيدة الحديثة من الزماني إلى اللازماني. والذي يتأمل جهود صديقنا أدونيس يرى أنه أبعد ما يكون عن كل هذا. فهو يجلس متأملاً وقارئاً، ويعيد انتاج ما قرأ وأحياناً بالأسلوب نفسه أو عكسه. لكنه لا يدرك بواطن ما يقرأ، ومعاناة الذين كتبوا ما يقرأ - وهذه حقيقة وليست نقداً له - ولهذا فإن تأثيره يكون سطحياً لفظياً أكثر مما هو تأثير عميق حقيقي. والذين ينبهرون به أحياناً هم من المدللين أو العابرين أو الهامشيين الذين لم يعانوا محنة الوجود، ولم يقفوا في وجه التعاسة والموت، ولم يناضلوا في سبيل حياة أفضل. فإما هم متواطئون، وإما هم مغفلون! هل ينسحب هذا الموقف من أدونيس على شعره أيضاً؟ - أدونيس الشاعر له مقدرة، كأستاذ في الشعر، على صياغة القصيدة لغة وأسلوباً، وهذا أمر طبيعي. لكنني أتحدث عن قصائده التي لا تقول في نهاية الأمر شيئاً، ولا ترسخ في الذاكرة، ولا تترك أثراً لا من قريب ولا من بعيد. فالرؤية الجديدة في الشعر هي رؤية لتغيير العالم، هكذا أفهم الحداثة بوصفها ثورة في الثورة، لا نتيجة المعاناة الذاتية التي تتولد من خلال الهواجس الطبقية أو الفئوية؟ إذا كان هذا موقفك من قصيدة أدونيس، فما هو موقفك من قصيدة محمود درويش؟ - قصيدة درويش أمر مختلف، لأن مشروعه الشعري يقترب من التكامل، وقد أصبح قيمة ثابتة لأنه يحافظ منذ ديوانه الرابع على ضبط ايقاع قصيدته. وأقصد بالايقاع التكامل في القصيدة، وهي عند درويش ليست مجرد لغة أو موسيقى، بل احتجاج ضد الموت والتعاسة وضد الذل الكوني الذي يواجهه الانسان في كل العصور. ومحنة بلده هي عينة حية رفدته بهذه الامكانية أو الرؤية الابداعية. وشعر درويش إلى ذلك على طرفي نقيض من شعر أدونيس، وهذا أمر طبيعي إذا نظرنا إلى البيئة التي أتى منها كل منهما. فذاك جاء من القرية إلى المدينة مالكاً سعيداً، ودرويش خرج من الجحيم حاملاً النار في يده وفي شعره الاسبوع المقبل الحلقة الثانية شاعر الرؤيا يتفق معظم دارسي شعر البياتي على انّه "شاعر الرؤيا" بامتياز ... والنماذج التي انتقاها البياتي لم يقدّمها في شعره كما في الواقع، أو كما رسم ملامحها الآخرون، بل كما رآها هو ليكشف عن الجوهري فيها، ويلفظ كلّ العناصر الزائفة الأخرى التي ليست لها علاقة بها ... وقد أفضت رؤيا الشاعر للنموذج على هذا النحو من "الانزياح التشخيصي" - إذا صحّ التعبير - إلى أسطرة النموذج من خلال تحطيم أبنية الزمان والمكان المحيطة به، وتجريده من عناصره التشخيصيّة/ الفرديّة، وتحويله إلى صورة كليّة متحرّكة قابلة للاندفاع الى المستقبل، والتقهقر إلى الماضي، والظهور والتلاشي على طريقة التقنيّة السينمائيّة، والمثول في صورة كائنات أخرى يختزنها العقل الباطن للشاعر، أو تختلقها مخيّلته الحلميّة التي تشكّل الرؤيا. ويتخذ النموذج الانساني هذا أبعاداً ميتافيزيقيّة واضحة" يمتدّ بظلّه على النص بأكمله، ويحدد حركنه ومداه. ومن ثمّ يتقاسم البطولة مع الشاعر في النصّ، الراوي المناوئ له في كثير من الأحيان، عبر حركة الرموز والاشارات المضادة، كما يشير الدكتور صلاح فضل في "أساليب الشعريّة المعاصرة" "دار الآداب"، بيروت 1995. وقد ذكر البياتي نفسه أنّه أخذ الشخصيّات، أو النماذج في شعره، كلحظات وجوديّة وليس كحالات تشخيصيّة. وفي كل الأحوال، فإنّه يختار هذه النماذج لتوافر السمة الدالة فيها، واقترانها بتجربته في الحياة والشعر. عوّاد علي من مقدّمة "نهر المجرّة"، "الهيئة العامة لقصور الثقافة"، القاهرة 1998 إلى فلاديمير ماياكوفسكي مايا... كوفسكي في وجه النقّاد اللؤماء يرفع جبهته المعصوبة وقصيدة بالدم مكتوبة وعصاهُ الثلجيّة تقرع روسيّة أرضَ الحريّة
الحقدُ يلمع في عيون ذوي اللحى الصفرُ الطوال القاتلي بوشكين الجبناء أشباه الرجال سرقوا ابتسامته وسموا خبزه بالبغض لكنّ الليال دارت على أقلامهم دارت، وكسّرت النصال وخبت عيون ذوي اللحى الصفر الطوال لكنّ وجهَك، يا رفيقي لا يزال في ليل موسكو ساخراً منهم ومن عبث الظلال
مايا... كوفسكي يرفع جبهته المعصومة في وجه النقّاد اللؤماء. موسكو، 17/1/1960