وجاء الوقت الذي أكتب فيه عن مكتبتي، عن المكان الذي أحمي فيه رأسي من ضجيج العالم. لم أعتد على الكتابة عن نفسي، فمكتبتي جزء مني؛ أليس الإنسان انعكاساً لما حوله؟ لو قدّر لكل مكتبة أن تصبح إنساناً، لصارت كل مكتبة على هيئة صاحبها، وأنا الشكل الإنساني لمكتبتي. غرفة، ستة أمتار لا نهائية، بخمسة أمتار رحبة، تصطف على ثلاثة جدران منها أرفف غير متشابهة؛ تقف دائما باستعداد. وتطمئن، لصق الجدار الرابع، أريكة ثلاثية بطريقة حكيمة. أمامها تلفزيون، على طاولة واطئة، لا يزيد استعماله عن ثلاث مرات في السنة، وكتب.. الكثير من الكتب تسري في جسدها، وتمدها بالحياة.. وباب يقف الملل وراءه مثل ذئب رأى بندقية في يد الراعي. بدأت مكتبتي أول مرة، قبل ثمانية عشر عاماً، في يوم شعرت فيه بأنني بحاجة إلى أرفف تلُمّ كتبي المتناثرة - مثلي آنذاك- على أرض غرفتي. فحصلت على أول دولاب للكتب؛ ولا يزال لدي؛ دولاب يشبه عاملا يؤدي عمله بإخلاص. كان منظر الكتب، وهي مصفوفة فيه، يوحي بشكل غير مدرك أن عليّ ترتيب العالم. فكبرت وكثر العالم وصار يحتاج إلى المزيد من الكتب لترتيبه. كنت أجمع كتب الشعر لأنني أحبه، وأقرأ التاريخ لأظهر تفوقي على أقراني، وأقرأ في الفلسفة لمجرد القول إنني أقرأ الفلسفة. حتى قادتني المصادفة للرواية، فكانت فتحا عظيماً لذهني، جعلتني أقرأ التاريخ لأعرف وأقرأ الفلسفة لأفهم وأقرأ الشعر لأعرف كيف أفهم. في الأدب السردي سر يجعل الكلمات غواية والقراءة فعل استرشاد. ثم صار لدي دولابان، لمّا صرت رب أسرة بعد ذلك. وكلما كبرنا شعرنا بأن العالم يزدحم ويغدو له ضجيج متآمر على العقل والذائقة؛ لذلك قررت الاحتماء من الأصوات العالية التي يتسبب بها أي شيء مرتبك في الخارج. يومها كنت أمتلك ثلاثة دواليب تجاهد على تحريري من تيار الأصوات القلقة، فقمت بعمل نقلة نوعية في حياتي، حيث بنيت في الحوش، بعيداً عن الضوضاء،غرفة، برهنت فيها للعالم أنه مكون من أصوات هشة، وأن نبرة صوتي واضحة، وتشبهني. لدي الآن مكتبة، فيها تسعة دواليب متآلفة، عليها أكثر من ألف كتاب، لديها أنا وحدي. أترك رأسي يرتع، مستلقياً على الأريكة الثلاثية، والتلفزيون بجانبي مغلق، ورائحة قهوة فاخرة تطوف بالأرجاء، أقرأ كتباً مختلفة، أغلبها روايات رائعة تمنعني من الحركة، أعيش بها حياة لم أعشها، وروايات سخيفة أرميها بعد الصفحة الأربعين، وأخرى لا بأس بها أجبر نفسي على الاستمرار حتى الغلاف الخلفي.. ألتقط أحد الكتب الدينية من الأرفف العلوية، أعمّق في نفسي السكينة، أتركها بعدما أحس باسترخاء لذيذ في عضلة القلب. أو أحمل كتاباً عن التاريخ، من الدولاب الأخير بجانب الباب، أنبش صفحاته عن حادث معين، إذا كان لي به حاجة، وإلا تركت حوادثها مغلقة أياماً طويلة.. أجلس بكتاب عن فلسفة ما، أقرأه في الوقت الذي تترك حبكات القصص نهايتها معقودة في ذهني؛ كتب الفلسفة تسبب لي تنملاً في الأطراف، ونوعاً فاتراً من الزهد في الأشياء البرّاقة، ورغبة في إيجاد معنى جديد لكلمة قديمة. ومرات قليلة أناوب جسدي بين الاستلقاء والجلوس عند قراءة السير الذاتية، التي لها جوّها الخاص في القراءة، ونكهتها الحقيقة المرة والحلوة.. أدور بين الزوايا، على وقع بيت شعر، أو سحر مقطع مكثف، مثلما يدور مشجع كُرة سجل فريقه هدف الفوز، أردد: «الله الله الله». الذي استفدته من وجود مكتبة هو أنني أحسست بقوة أن أقول كلمة «أنا» في الوقت الذي تلهث فيه كلمة «نحن» وراء إدخالي بتيار جمعي جارف؛ لم أعد بحاجة إلى العالم. أنا في عزلة ليست ككل عزلة. إنها عزلة مفتوحة على أنواع كثيرة من المخالطة والتواصل، وتعارف الناس، ومبادلة الأحاديث. عوالم تتفرع منها عوالم أخرى، بلدان تنهض وتتدهور، أناس يتسامحون، يخططون للثأر، أسباب ونتائج، تفاصيل محيرة، أحداث ساخنة، حكم تقال وحماقات تُأتى. أحتاج مائة سنة إضافية. كل هذا أراه من مكان عالٍ وشاسع، من فوق أريكة ثلاثية، وأدع الوقت يمر وأكبر.. كلما كبرت، في مكتبتي، شعرت بأن العالم يتشتت ويحتاج من يوجهه، من يقول له: ليكن لديك أرفف ومكتبة، ترتب عليها الفوضى، وتغلق الباب بوجه الأصوات التلفزيونية الصارخة، قبل أن يسعى ذئب الملل وراء وقتك. .. تكبر المكتبة وتكثر الكتب ويظل العالم متناثراً دون ترتيب، فيما أحتاج دائما لدولاب آخر.