تعجز كل الكلمات أن تعّبر عما يجيش بصدري وأنا أحاول أن أكتب عن أغلى وأعز من يمكن أن أكتب عنه.. سيدي ووالدي وصديقي وصديق الجميع فهد العبدالكريم، الذي تلقى التوجيهات الأولى في المجال الإعلامي من أستاذه وصديقه الدكتور فهد العرابي الحارثي منذ بدايه انطلاقته في ساحات المعارك الصحفية؛ حيث بدأ محرراً آنذاك بمجلة اليمامة في بدايات ما عُرف بصراعات الصحوة التي كانت في الواقع معركة شرسة. وكان فهد العبدالكريم بين من تصدوا لعواصف وتيارات الفكر المتطرف ولم يكن والدي ممن تأثروا بالفكر المتزمت وجرفهم التيار إلى منحنى خطر فكرياً كبعض من الإعلاميين الذين اختطفتهم الصحوة قبل أن يعودوا إلى صوابهم. لقد اختار والدي مسار الاعتدال والتسامح والتصالح مع الذات، وكان يدعو إلى الاعتدال والوسطية وسط عواصف (الصحوة) الهائجة. فهد العبدالكريم الذي يصافح الجميع بابتسامته قبل مصافحة يده.. فهد العبدالكريم الذي اكتسبنا منه جرعات من التفاؤل، واكتسب منه كُثْرٌ سماتِ الشخصية القوية المثابرة، ومنه تعلمنا دروسًا ثمينة في كيفية تطوير الذات مستمدة من الواقع والحياة قد لا تجدها في أعرق الجامعات، فهد العبدالكريم الذي أسر قلوب الناس بتواضعه وحنكته ودعمه اللامحدود للشباب الطموح.. صحافي استثنائي يحمل الوعي الصحفي والحس الوطني مدركاً تماماً ماذا يريد وما تبعات الأهداف التي يسعى لتحقيقها. فهد العبدالكريم الذي قاوم المرض عندما ابتلاه رب العباد، وكان مؤمناً وصابراً ومحتسباً، قاوم المرض بابتسامته وإيمانه القوي بالله، وفي جناحه الخاص بمستشفى الحرس الوطني بالرياض الذي اكتظ بالزوار والمحبين والمسؤولين لم يكن والدي يتأثر حين يستقبلهم، كان مبتسماً بسيطاً متواضعاً ويبحث عن سائل متعفف أو يتيم أو كبير في السن أنهكَتْه مشقاتُ الحياة؛ لتلبيةِ احتياجاتهم.. كان إنسانًا قبل أن يكون رئيساً، ولكنه في الحقيقة كان متاثراً أمام أسرته وأبنائه وبناته ووالدته ووالده - تأثُّرَ أيِ أبٍ بابنه.. حفظ الله الجد الشيخ راشد العبدالكريم الذي لم يتأخر يوماً عن وقوفه ومساندته لابنه الأكبر فهد الإنسان. مما أتذكره وهذا دليل على قوة صبر وإيمانه وعشقه للقلم، عندما وصلنا إلى أمريكا وهو يصارع المرض الخبيث تلقى خبر وفاة الأديب الشيخ عبدالله الحقيل، ونزل عليه الخبر كالصاعقة، فلم يتمالك نفسه ونسي نفسه، وأخذ مني القلم فكتب مقالاً عن رحيل هذا المؤرخ والأديب يبدي فيه تأسفه لعدم استطاعته حضور تشييع جثمان هذا الشيخ الجليل، وحين انتهى من المقال عاد يبث في أنفسنا الأمل والتفاؤل والطمأنينة ويخفي تأثره، وحول بلطفه وابتسامته رحلة العلاج إلى رحلة عائلية ترفيهية بمواقف جميلة وطريفة كان حضوره مختلفًا.. أبٌ مختلف وصديق مختلف. كان رحمه الله يداعبنا ويرسم الابتسامة على وجوهنا جميعاً رغم ضغوط الجلسات الكيماوية، ومن الذين رافقونا جدتي فاطمة والعم عبدالله وصالح العبدالكريم والعمة منيرة العبدالكريم، ووالدتي وجنتي الجوهرة الفالح وياسمين ويزيد والعنود ونوف العبدالكريم وأبناء العمة الدكتور ناصر وأروى وسارة الخميس. العمة منيرة أطال الله في عمرها هي جوهرة رحلتنا وهي الموجهة والقائدة الأعلى وهي التى قال والدي عنها: هي اليد البيضاء الحانية التي تُرَبِّتُ على ألمي، ليستقر جَناني، وتستريح عيناي المسهدتين من الوجع، لأغفو في سكينة بعد تلاواتها القرآنية مستشعرا فيضَ نورها ورائحة عطر يتنزل من سماوات سبع، أستلهم حينها خشوعًا يخيم على روحي على ترانيم صوتها العذب. لقد مرت بنا غيمة حزن في أرجاء أُسرة العبدالكريم لم تمر بها من قبل رحيل فهد العبدالكريم لم تكن تداعياته عادية خسرنا رجلاً لايقدر بثمن كان إنسانًا قبل أن يكون أحد رجالات الإعلام.. فهد العبدالكريم الذي نشأ بداية تأسيس الدولة السعودية الثالثة في الدرعية التاريخية التي أنجبت لنا رجلًا تاريخيًا سيبقى اسمه في ذاكرة الإعلام السعودي والعربي. بدأ حياته منذ الصغر تحت الصفر، قاوم مشقات الحياة آنذاك في مطلع الثمانينات للهجرة، كانت الفرص الوظيفية أشبهَ بالقلة، كان يعمل ويكافح ويكدح في مهنات متعددة إلى أن تم قبوله في وزارة الشؤون الإسلامية، كانت فرحةً عارمة بداخله وهو يتلقى خبر قبوله بمكالمة هاتفية، استمر ركضه في حياة المشقات والمتاعب حينما كانت المعيشة من دون تكلف، وبسيطة جداً.. تدرّج بالعمل إلى أن أصبح سكرتيراً لوزير الشؤون الإسلامية آنذاك.. تخرج في جامعة الملك عبدالعزيز وواصل مشوار حياته إلى أن اختطفه الإعلام، كان الأستاذ الدكتور فهد العرابي الحارثي بنظرته الثاقبة يدعو الوالد دائمًا للعمل في مجال الإعلام؛ رأى في ذلك الشاب الكادح العصامي شيئًا مختلفًا.. تم تعيينه محررًا متعاوناً، بالإضافة لعمله بالقطاع الحكومي بوزارة الشؤون الإسلامية.. المفاجأة غير المتوقعة بعد مباشرته للعمل وركضه بميادين الصحافة كانت إبداعات ولمسات وخبطات صحفية بمهنية عالية؛ فاقترح عليه د. الحارثي أن يتقدم باستقالته من القطاع الحكومي، ليتم تعيينه سكرتيراً تنفيذياً لتحرير مجلة اليمامة.. رأى الاستاذ الدكتور فهد العرابي الحارثي بخبرته الإعلامية أن هنالك شيئاً مختلفاً بهذا الشاب العصامي المكافح المثابر لعمله، وشغفه الذي لا ينقطع، رغم معاناه الحياة ومشقاتها، فواصَلَ مشواره الصحفي بتفانٍ ومهنية وحس وطني عال، وخاض تجارب عديدة إلى أن عُيِّنَ مديراً لتحرير مجلة اليمامة، واستمر ركضه الصحفي مديراً لتحرير مجلة اليمامة لما يقارب ثلاثة عقود من العطاء، إلى أن تسلم رئاسة تحرير مجلة اليمامة التي كادت أن تغلق بعد تكبدها خسائر مالية فتسلمها بفروسية؛ واستطاع تقليص خسائرها المالية خلال عام، وأتذكر في يوم من الأيام عندما أتى إلى مكتبه الأستاذُ الكبير تركي بن عبدالله السديري يرحمه الله مهنئاً ومشيدًا بما حقق وقال «ماذا فعلتَ؟! أرباحُ بعض الصحف بالنازل، ومجلة اليمامة تطلع». بلا شك ما تزال مجلة اليمامة تخرّج أساتذة في الإعلام لايستهان بهم، أسماء بارزة وقادة بالإعلام. رحمهم الله جميعاً وأسكنهم الفردوس الأعلى. وفي خلال السنتين الأخيرتين في أثناء مرضه كنتُ ملازماً تحت قدمه أينما رحل، فكنت أتعجب لمقاومته المرض بإيمان وثبات واستقباله الزوار والمكتظين في مكتبة ودعم الشباب الذين يملكون الموهبة الحقيقة وضخ دماء جديدة في الإعلام وتلبية احتياجات المحتاجين.. رحمك الله يا سيدي. وبعد ترجل فارس المهنية والإبداع ترجل أحد أبرز قادة الإعلام السعودي فهو من الشخصيات الاستثنائية القلة كالأستاذ الكبير تركي السديري، تربطهما بعض الصفات المشتركة؛ سمو الخلق ومروءة في التعامل وخفة الروح والإنسانية الباذخة ودعم وصقل المواهب الشابة، وكم كانت مكاتبهم رحمهم الله، مفتوحة للجميع وتلبية نداءات المحتاجين، كم كانا رحمهما الله شخصيتين استثنائيتين لن تتكررا في تاريخ الإعلام السعودي والعربي. وبعد مرور ما يقارب شهراً لرحيل والدي وسيدي الغالي، لست مدركاً إلى هذه اللحظة.. رحل الموجِّهُ والقائد ورفيق دربي.. رحل صديق العمر.. لم يكن والدي فحسب؛ كان رحمه الله بمثابة صديق حميم، ما زالت ذكرياتي ومشاكساتي معه عالقة بالذاكرة، وسط هدوء وسكون مدينة الرياض في إحدى الليالي وبعد خروجه من صحيفة الرياض بعد منتصف الليل حين وصوله إلى منزله الكريم فكانت (الطبعة الأولى) هي أولى اهتماماته والصفحة الرئيسة هي هاجسه؛ فكان يراجعها بدقه وهو منهك، وإذا شعر أن هناك ما يدعو بها للقلق رماها اليّ، لكي أراجعها من بعده للتأكيد، وحين يكتشف بعض الأخطاء التي تقع سهواً عند البعض يتصل مباشرة بالمدير المناوب الأستاذ جميل البلوي الرجل المهني البارع، فيكون هو أيضًا منهكاً طوال اليوم كما هو حال والدي، فيتعجب من الخطأ الذي وقع سهواً فيتم تعديله رغم أن الخطأ ليس باستطاعة أي شخص أن يلاحظه، وتعجب من ذلك جميل وسأل والدي (ما شاء الله عليك كيف انتبهت للخطأ يابو يزيد فاتني والله، فقال رحمه الله: مهوب أنا هذا فيصل ما شاء الله عليه). علاقتي بالمرحوم ليس لها حواجز أو حدود نهائياً ليس كعلاقة أي أب بابنه كان صديقاً مقرباً من الممازحات التي رسخت في ذاكرتي بيني وبينه وهو يقول لي «أنت يا فيصل ما راح تعرف قيمة أبوك إلا لما أروح عن الدنيا، فأجاوبه: تفضل اتوكل على الله»، «فيضحك ويقول أنت عيار» رغم أنه يعلم ما هي قيمته بقلبي وأعلم ما هي قيمتي بقلبه.. رحمك الله يا من استوطنت قلبي. وبعد.. ماذا يسعني أن أكتب عنك؟! لولا استطاعة الإنسان أن يصف مشاعره الحقيقية بالفقد لوَصَلَ إحساسه إلى من هم لا يشعرون بأهمية وقيمة الآباء؛ فهم نعمة واحتواء وأمان روحي وسكينة وتوجيه وقيادة حكيمة فذة. رحمك الله يا من أكرمتني بكرمك. سبحان من وهبه محبة الناس، رجل الخير والعطاء، وفي أثناء مراسم الدفن في المقبرة حصل صُلح بين شخصين بعد اختلاف دام لأعوام.. بهذا الموقف نأخذ لحظة للتأمل: أيَّ خبيئة كنتَ تصنع يا سيدي؟ فخور بك يا والدي والحمدلله على قضاء الله وقدره. رحمك الله رحمة واسعةً. ونلتقي بك في روضة من رياض الجنة إن شاء الله. كما أشكر مقام مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، وسمو سيدي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود على تعزيتهما ومواساتنا في الفقيد.