لم يتوقع أحد حجم التداعيات الكبيرة التي أحدثتها جائحة فايروس كورونا (كوفيد-19) على معظم جوانب حياتنا، فبعد أن كانت شوارع مدننا وأسواقها ومصانعها ومكاتب الأعمال فيها عامرة بالحياة والحركة، أصبحت اليوم خاوية على عروشها في حالة من الإغلاق الشامل، وأصبحنا اليوم نعيش عزلاً منزلياً صارماً فرض علينا التباعد الجسدي حتى من أقاربنا وأعز أصدقائنا. وعلى الرغم من أن الطريق أمامنا لا يزال طويلاً قبل أن نضع جائحة فايروس كورونا في أرشيف الأخبار القديمة، إلا أن بصيص أمل بدأ يلمح في الأفق بعد أن قامت العديد من دول العالم بتخفيف قيود العزل ورفع حظر التجول تدريجياً، ولأول مرة منذ عدة أشهر، بدأنا نستعيد بعض مظاهر حياتنا السابقة وأصبحنا نتطلع للمستقبل أكثر من أي وقت مضى. في حين أننا (في الوقت الحالي، على أقل تقدير) تجاوزنا التأثيرات قصيرة المدى لهذه الجائحة، إلا أنه سيتعين علينا وبصورة حتمية مواجهة العديد من آثارها طويلة المدى في الأشهر والسنوات المقبلة. تندرج جائحة فايروس كورونا (كوفيد-19) تحت نظرية «البجعة السوداء»، وهي نظرية تُشير إلى صعوبة التنبؤ بالأحداث المفاجئة، وهذا ينطبق تماماً على الحالة التي نعيشها اليوم حيث تعتبر هذه الجائحة حدثاً نادراً لا يمكن التنبؤ به وبأضراره الجسيمة خصوصاً على الاقتصاد، ولكن من ناحية أخرى، أثبتت أحداث البجعة السوداء عبر التاريخ أنها أرضٌ خصبة لرواد الأعمال وللابتكار الحقيقي. في المقال السابق تحدثت عن الفرص المتوقعة في مجالات الصحة والمواصلات والخدمات اللوجستية، وسأتحدث اليوم عن المجالات التي يحتمل أن تشهد أكبر قدر من النمو في ظل هذه الجائحة. تطوير المواد يميل البشر الى التفاعل مع عالمهم المادي بصورة أولية عبر الاستشعار باللمس من خلال اليدين، ولكن هذا التفاعل أصبح مشكلة حقيقية في هذه الجائحة، لا سيما في الأماكن والمرافق العامة التي يمكن تصبح بؤراً رئيسية لانتشار الوباء في حال اللمس المتكرر للأسطح فيها مثل مقابض الأبواب ومفاتيح المصاعد وماكينات الصراف الآلي على سبيل المثال. وقد يكون الحل للتغلب على هذا التحدي في المستقبل هو استخدام الأتمتة (جعل عملية ما تحدث بصور آلية وذاتية) أو استخدام تقنية الأوامر الصوتية أو أجهزة استشعار الحركة أو بصمة الوجه، ولكن ماذا لو فكرنا بنوعية المواد التي نستخدمها للأسطح التي يتم لمسها بصورة متكررة، قد يوفر ذلك حلا أكثر جدوى وفاعلية لهذه المشكلة. تعمل البروفيسورة ديريا باران عضو هيئة التدريس في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (كاوست)، على تطوير مواد مضادة للميكروبات تُستخدم في أغلفة الهواتف الذكية وواقيات شاشاتها (وهي من الاسطح الرئيسية لانتشار البكتيريا)، وتتميز هذه المواد بقدرتها على تثبيط نمو الكائنات الحية الدقيقة والفيروسات، الأمر الذي يجعلها مثالية لأسطح المرافق العامة التي يلمسها الناس بكثرة. الواقع الافتراضي لا شك أن الواقع الافتراضي من التقنيات الرائعة التي لم تسخر على الوجه الأكمل لخدمة الانسان، ولكنها اليوم تمتلك فرصة جيدة للتأثير خلال هذه الجائحة، بما تقدمه من تجربة التواجد افتراضياً في أي مكان يتعذر الوصول إليه، خصوصاً في ظل إجراءات التباعد التي فرضها علينا فايروس كورونا، وهي من المجالات العلمية التي يتم دراستها وتطبيقها فعلياً في (كاوست) على هيئة المختبرات الافتراضية، التي تتيح للعلماء والباحثين والطلبة تجاوز عقبة الإغلاق والعزل وتمكنهم من التواصل مع أقرانهم من مختلف التخصصات بصورة أفضل خصوصاً التخصصات التطبيقية التي تعتمد على عنصر التجربة العملية، وبالتالي ضمان استمرارية الدراسة للعديد من طلبة الجامعة في الأوقات التي يتعذر عليهم التواجد جسدياً في حرمها الجامعي. كما تقدم تقنية الواقع الافتراضي تجربة جديدة لطلبتنا للقيام بالتجارب العلمية في بيئة آمنة بعيداً عن أي مخاطر متعلقة بطبيعة العمل في المختبرات، الأمر الذي سيطلق العنان لهم كي يستكشفوا ويدرسوا موضوعاتهم بحرية وبطرق يتعذر عليهم القيام بها في العالم الحقيقي على الأقل من ناحية الأمن والسلامة. ونظراً لزيادة الطلب على التباعد الاجتماعي والجسدي في العديد من الصناعات، فإن تطبيقات الواقع الافتراضي ستفرض نفسها وبقوة في الأنشطة المرتبطة بهذه الصناعات مثل التدريب والعلاقات العامة والاتصالات والتوظيف، الأمر الذي سيرفع من أهميتها ودورها في المستقبل. تقنية الأتمتة والروبوتات تلعب الأتمتة والروبوتات اليوم دوراً حيوياً في المصانع والمستودعات حول العالم، وهناك فرصة جيدة لتسريع الثورة الروبوتية في أعقاب جائحة فايروس كورونا (كوفيد-19). أثبتت الأتمتة أهميتها الكبيرة في قطاعات كثيرة خصوصاً في الصناعة بما تقدمه من مزايا خفض تكاليف التشغيل، وتحسين كفاءة العمل، وتقليص الخطأ البشري، ولكن معظم القطاعات الصناعية مثل التصنيع والبناء تواجه اليوم تحديات كبيرة متمثلة في التقيد ببروتوكولات السلامة الجديدة لجائحة فايروس كورونا من تباعد اجتماعي وتقليل عدد الموظفين والعمال، وهذا يضعها في موقع لا تحسد عليه، إذ سيتعذر عليها تنفيذ مشاريعها الرئيسية بنفس الوتيرة السابقة الأمر الذي سيفرض عليها استخدام تقنية الأتمتة لتجاوز هذه المعوقات وتلبية الجدول الزمني لمشاريعها. جدير بالذكر، أن زيادة الاعتماد على الأتمتة من شأنه زيادة سلامة الإنسان، فالروبوتات لا تصاب بالأمراض، وتتميز بصلابتها وقدرتها على العمل في الأماكن الخطرة بأقل إشراف بشري ممكن، لذلك، يمكن النظر لتقنية الأتمتة كنموذج عمل أرخص وأكثر أماناً ومرونة في بعض الصناعات. النقل العام مع استمرار نمو عدد سكان العالم عاماً بعد عام، تنظر الدول إلى تعزيز موضوع الكفاءة في تصميم أنظمة المواصلات العامة والنقل الجماعي، بحيث يمكنها نقل أكبر عدد ممكن من الأشخاص في وقت واحد ومراعاة الحد الأدنى من إجراءات الأمن والسلامة عند القيام بذلك، لقد رأينا جميعاً صوراً لمترو الأنفاق في لندن أو قطارات اليابان وهي مكتظة بالركاب لحد الانفجار، وقد تكون هذه الصور طبيعية في عالم ما قبل جائحة كورونا، ولكن المشهد تغير تماماً اليوم. إن تجنب وسائل النقل العام والسفر بالسيارة ليس حلاً بقدر ما هو وسيلة لتسريع مشكلة أخرى ملحة، ألا وهي تغير المناخ، وبالتالي، سيكون حل مشكلة النقل العام معقداً للغاية وعلى الأرجح سيتطلب مجموعة متنوعة من الحلول المختلفة والمتداخلة. وفي الوقت الذي نشهد فيه زيادة كبيرة في معدل العمل من المنزل وعقد الاجتماعات الافتراضية استجابة لإجراءات الوقاية من هذه الجائحة، إلا أننا من المحتمل أن نشهد أيضاً ابتكاراً واسع النطاق في حلول النقل والمواصلات، قد تشمل المركبات ذاتية القيادة، والنقل المدعوم بالتقنية الكمية (quantum technology- على الرغم من أن هذه التقنية لا تزال في بدايتها)، أو التصوير الحراري في المحطات لتحديد الركاب المصابين بالحمى، أو زيادة حلول التنقل الصغيرة مثل الدراجات الكهربائية الذكية والدراجات التي تحتوي على أغشية مقاومة للميكروبات المذكورة أنفاً. نمط الحياة ما بعد كورونا نعيش حالياً في قلب عاصفة فايروس كورونا التي قلبت حياتنا وعاداتنا وممارساتنا اليومية رأساً على عقب، وأصبح من المسلّم به أن حياتنا ستتغير بشكل كبير في الوقت الذي تنقشع فيه هذه الغمامة، والشيء المؤكد هنا أن هذه الجائحة ستصبح حقاً شيئاً من الماضي، الا أن على حكومات العالم وصناع القرار وقادة الصناعة التعلم من هذه التجربة والقضاء على نقاط الضعف التي تم الكشف عنها خلال هذه الجائحة وتحديد مقدار الوقت والموارد التي ينبغي استثمارها في حماية أنفسنا في حال ظهور وباء مماثل في المستقبل -لا سمح الله-. قد تكون جائحة فايروس كورونا (كوفيد-19) أكبر أزمة صحية عامة عالمية في الذاكرة القريبة، لكنها بالتأكيد ليست الأولى، فقد سبقتها أوبئة أخرى فشلت بالتفشي مثل متلازمة الشرق الأوسط التنفسية، والسارس، والإيبولا، وان كانت على نطاق أصغر بكثير ولم تتمكن في نهاية المطاف من تغيير الوضع الراهن في العالم، أما كورونا فالوضع مختلف، حيث توجد اليوم رغبة عامة وحقيقية في التغيير، وهذا ما يرفع من جاذبية السوق العالمية وإمكانياتها بالنسبة لرواد الأعمال. (*) رئيس مركز ريادة الأعمال في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (كاوست) [email protected]