لا يتعدى عمر السينما أكثر من قرن من الزمان تقريباً، وهو الفن الذي تحول فيما بعد لصناعة وثقافة بل وأمن قومي في بعض المراحل التاريخية، وقد تطور هذا النوع من الفن بالتوازي مع الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي واكبته، بحيث أصبح أحد أهم المصادر المعبرة عن تاريخ وتراث وواقع الأمم على اختلافها، ولكل دولة فنها وإرثها الحضاري، غير أن ذلك لم يمنع ظهور رواد في هذا المجال مثّل إنتاجهم إشعاعاً تسعى بقية الدول الأخرى لتقليده ومحاكاته. فن السينما لم يولد بعيداً عن الأهداف التجارية، غير أنه ظل يكتسب شعبية متزايدة بمرور السنين مما حوله لصناعة بمعنى الكلمة، وهذه الصناعة التي بدأت في أخريات القرن التاسع عشر، وأصبحت تضم أطيافاً واسعة من المشاركين أبرزهم شركات الإنتاج والتوزيع السينمائي واستديوهات التصوير، التي هدفت لتحقيق الأرباح في المقام الأول والأخير. للإنتاج الإعلامي تاريخ امتد لعدة عقود قبل أن تظهر السينما الصامتة في منتصف العشرينات من القرن الماضي، وقد ظهر الإنتاج العربي في هذا المجال متأخراً بعض الشيء، نظراً لأن انتشاره كان يعتمد على توافر دور العرض، ثم ظهر التليفزيون منافساً للسينما العالمية في الخمسينات، غير أن تلك الصناعة شهدت دفعة قوية بظهور الأطباق الهوائية في التسعينات، مما زاد الإنتاج بشدة لقدرة الأعمال المصورة على الوصول لجمهور أوسع في جميع أنحاء العالم، وأصبح المجال الإعلامي فضاءً واسعاً يضم مختلف الثقافات والاهتمامات. في أربعينات القرن الماضي استخدمت الولاياتالمتحدة الإنتاج الإعلامي لتدعيم موقفها الحربي خلال الحرب العالمية الثانية، فشاركت بذلك في ازدهار السينما الأمريكية من خلال إنتاج الأفلام الوثائقية والدرامية التي تعظم من عقيدة الحرب وتمتدح موقف الحلفاء، ولطالما تم استخدام الإعلام بصورته الفنية أو الإخبارية لخدمة قضايا أي دولة، فهي أحد المنابر المهمة التي يستطاع من خلالها توجيه الجماهير والتأثير في الرأي العام، وغدا لكل قناة فروع متعددة يهتم أحدها بالدراما والأخرى بالرياضة أو بالأخبار. لاشك أن السينما هي أحد أنواع الفنون المعبرة عن هوية الدولة، تستطيع الدولة من خلالها بث توجيهاتها ورؤاها الاستراتيجية بطريقة فنية، كما تستطيع من خلالها ترسيخ الأفكار والموضوعات التي ترغب في توطيدها وتجذيرها في نفوس المواطنين، وتستطيع أيضاً تنفيرهم من خلالها من الظواهر الضارة أو المؤذية في المجتمع كالإرهاب والتنمر على سبيل المثال، وقد تمكنت الكثير من الدول العربية بالفعل من استغلال تلك الخواص وتحقيق استراتيجياتها الخاصة مثل مصر، والتي نجحت ببراعة في تسويق وتكييف الكثير من أعمالها الفنية للترويج لثقافتها وهويتها، وقد اكتسبت هذه القدرة نظراً لتاريخها العريق في التعامل مع السينما كصناعة، وكانت من أوائل الدول العربية التي تبنت ودعمت واهتمت بالسينما كثقافة واستثمار في آن واحد. يتبنى الأمير الشاب محمد بن سلمان منظومة استثمار حديثة تمثلت في رؤية 2030، والتي سعت لأن تمزج بين كل ما هو حاضر وتاريخي معاً، وتدمج كل ماهو ثقافي بكل ما هو استثماري في آن واحد، وتطمح لتحويل مستقبل المملكة لآخر أكثر نصوعاً وشفافية من خلال تحريره من كل المعوقات التي كانت تعوقه في السابق، هذه المنظومة تثق في القدرات الاستثمارية للدولة وتؤمن بسواعد أبنائها الوطنية، وفي مجال الإنتاج الإعلامي يمكن للمملكة إنشاء مدينة للإنتاج الإعلامي تكون مركزاً شرق أوسطي يُمكّن الدولة من نشر ثقافتها وجني استثماراتها في نفس الوقت. خلال الثمانينات -وأيضاً قبل سنوات قليلة- قمت بزيارة مدن الإنتاج السينمائي الأمريكية «هوليوود» في ولايتي كاليفورنيا وفلوريدا؛ حيث تعتبر الولاياتالمتحدة من أوائل الدول التي تمكنت من بناء تلك المدن المتخصصة في الإنتاج السينمائي، وقد لاحظت أن تلك المدن الإعلامية تعكس الهوية الأمريكية، كما أنها تعد مجالاً خصباً لتحقيق الأرباح وخاصة في ظل تزايد أعداد الزائرين من دول مختلفة سنوياً، مما جعلها أحد الروافد السياحية والاستثمارية المهمة للولايات المتحدة. قبل أن تقوم مصر بإنشاء مدينة الإنتاج الإعلامي كانت استوديوهات عجمان مناخاً استثمارياً ملائماً للإنتاج الإعلامي، غير أنه في اعتقادي أن هذا التوقيت هو التوقيت الأمثل لبناء مدينة إنتاج إعلامية عملاقة تكون الأكبر والأضخم على مستوى الشرق الأوسط، ويتم استخدامها كاستديوهات تصوير وكوجهات سياحية تستقطب المزيد من السائحين كل عام، وبهذا نكون قد حققنا أكثر من هدف من خلال زيادة الاستثمارات وعوائد السياحة من جهة، ومن خلال نشر ثقافتنا وتعريف العالم بحضارتنا من جهة أخرى، وبما يتفق مع إستراتيجيتنا الجديدة التي تهدف في المقام الأول والأخير لتحويل المملكة لمركز إشعاع اقتصادي وثقافي وسياحي واستثماري هو الأفضل والأضخم إقليمياً، وتسعى لتجسيد ريادتها وتقدمها من خلال إنشاء مشروعات تنموية مستدامة تصب في مصلحة الوطن والمواطن. كاتب سعودي Prof_Mufti@ [email protected]