في كرنفال يعجّ بالأصوات والحركة والألوان، حدث جلل يقع، فيتداخل النظام في الفوضى، وتعبر الأقدام اللامكان في وحدة الزمان، ويصير الصوت بوقا لنفسه وصدى لسواه، وتتيه الذوات وسط الزّحام، ويصير اللون رماديا بلا معنى، وترى النّاس سكارى، وما هم بسكارى؛ فتعبر الأطياف وجوه الأحبة، ويعلو القناع القسمات، وتخفي الرمال معالم الطريق، فيمسي العشب طعاما تعلقه الذئاب، لتبقى الأرواح -نهاية المطاف- متشظّية بلا قرار. الروائي السعودي عبده خال، الحائز على جائزة البوكر بنسختها العربية لعام 2010 عن روايته «ترمي بشرر»، يصور لنا في روايته «مدن تأكل العشب» حال أبناء القرى الذين ينتقلون أو يُنقلون للعيش في المدينة، وتعبر صفحات الرواية ال385 بالمتلقي إلى عوالم متنوعة؛ القرية، وطرق القفار العابرة لمدن جدة وجازان والرياض، زمن الستينيات. في هذه الرواية، يكاد ينعدم صوت الروائي السارد للأحداث، وينزل، فيها، الروائي العليم عن جبل الأوليمب، فيترك الشخوص تتحدث عن تجاربها، وتفصح عمّا يختلج أرواحها، بأسلوب تتداخل فيه الأجناس الأدبية، فترى المشاهد عناوين للفصول، ويرسّخ المسرح خشبته وسط السرد، ويتنمق الوصف في ذروة اللّغة الشاعرية. يعتمد عبده خال -في هذه الرواية- عنصر التشويق، منذ الصفحات الأولى لها، فيخبر المتلقي أنّ هذه الرواية عبارة عن روايتين متداخلتين؛ حيث أقحم الناشر رواية مجهولة المؤلف في رواية «خال» لتصيرا عملا واحدا، وذلك في تقنية مستحدثة تواكب فضاءات التجريب. وعلى صعيد آخر، يستهل عبده خال روايته بما يشدّك، ويدفعك لتقليب الصفحات: «أنا لا أعرف جمال عبدالناصر، وأنتم لا تعرفون جدتي. جمال رفع شعار الوحدة العربية وفشل، وجدتي رفعت شعار إغاثة الملهوف وفشلت؛ والاثنان أحمل لهما حقداً دفيناً، وأحملهما مسؤولة ضياعي». (الرواية، ص1). يدفعك هذا الاستهلال إلى العودة إلى عنوان الرواية «مدن تأكل العشب»، للتساؤل: - ما وجه العلاقة بين عبدالناصر وجدّة الراوي؟ - وإذا كان عبدالناصر قد فشل في ترسيخ شعار الوحدة العربية، وأضاع أحلام عامّة الجماهير العربية، فهل هناك خصوصيّة، لدى الراوي، مثل عبدالناصر يرى فيها ضياعاً له؟ - وإذا ما فككنا لغز الضياع المنبعث من عبدالناصر، فأي ضياع شكلته الجدّة للراوي؟ - وما علاقة هذا الاستهلال بالمدن في عنوان الرواية؟ - وما دلالة العشب الذي تأكله تلك المدن؟ - وأخيرا، هل شكل تثليث المدن وعبدالناصر والجدّة قرضا للعشب، وضياعا للراوي؟ تحفل الرواية بتصوير حياة الناس في قرية سعودية متاخمة لدولة اليمن، وتَعبر، من خلال العام إلى الخاص، إلى صوت الطفل «يحيى»، وحديثه عن صعوبة معيشة عائلته، المكونة من أمّ، وثلاث بنات، وطفل، بعد وفاة والده، الأمر الذي يدفع الجدّة «حليمة» إلى إرغامه على السفر معها، في موسم الحج؛ للعمل في مدن الحجاز، لتنقطع به السبل بوفاة جدّته في الطّريق، ويتلقفه غريب، يبدأ معه مكابدته مشواره المجهول في رحلة الحياة في المدينة. تقوم الرواية على أمل الأمّ بعودة «يحيى» بالقوافل المحمّلة بالذّهب؛ لينقذ العائلة من فقرها ومعاناتها، فهل نجح «يحيى» في تحقيق حلم والدته؟ وهل مكنت المدينة يحيى من ذاتها في ترسيخ ذلك الحلم؟ وكيف صوّرت لنا الرواية مدن الحجاز؟ تبدو صورة المدينة، في هذه الرواية، نمطيّة في كثير من تشكيلاتها؛ فمدينة جدة التي تدور معظم أحداث الرواية فيها، تبدو كأيّة مدينة عربيّة؛ فالبنايات شاهقة، والأسواق متسعة، وحشد كبير من النّاس يجوب الشوارع، والنّظافة تتناقص كلّما تعمّقت في أزقتها، وابتعدت عن مركزها، تجد فيها المثقّفين والسّياسيين والحزبيين؛ القوميين والإسلاميين، فالمدينة خليط في كلّ شيء؛ في أصناف الناس، وتوجهاتهم، واتجاهاتهم، ولا يوجد فيها حد فاصل بين الخير والشر، فعوالمها متنوعة، وأفكارها يشوبها التباين أكثر من التجانس، وأحلام الأفراد تشق طريقها بصعوبة وسط تقاطع الآمال. والسؤال الذي يفرض نفسه لزاما، في ظلال نمطية تلك المدينة: كيف استطاع «عبده خال» أن يؤالف بين دال العنوان وحبكة الرواية؟ يشي دال عنوان الرواية «مدن تأكل العشب» بأمرين اثنين؛ أولهما: بهيمية أهل المدينة، في إيحاء مشفّر، بأنّهم من الغوغائية والتخلّف والرجعيّة، لا يرتقون لمستوى الإنسانيّة، الشأن الذي جعلهم، في سلوكهم وتطلعاتهم، مجرد بهائم آكلة للعشب، وقد نفت أحداث الرواية، وسمات معظم شخوصها تلك النّظرة، ونأت بنفسها أن تشكل دلالة رمزيّة لعتبة النص، وابتعد بذلك الابتداء في الجملة الاسمية عن الثبات لمدلول الإخبار عن البهيميّة البشريّة للمدينة. أمّا الدلالة الثانية، فهي تستند إلى تشفير الاستعارة في الإخبار عن مدلول «تأكل العشب»، وذلك في استحضار مجاز القريّة ممثلة في مكنون الركيزة الحياتيّة لقاطنيها؛ فالعشب هو استعارة عن المكان المتمثل بالقرية والريف وساكني دلتا الأنهار والأودية في البادية. والجملة الفعليّة في الحكم والإخبار، في العنوان، توحي باستمراريّة وديناميّة الحدث الناجم عن الإغراء والاستغلال من جهة، والضياع والتيه في أروقتها، من جهة أخرى، انتهاء بالحد الذي يصل بتلك المدن إلى ابتلاع القادمين إليها من القرى، فلا يستطيعون من أضراسها فكاكا. تقوم حبكة الرواية على عناصر ثلاثة: الأمل، والخداع، والتيه، وقد تماهت تقنيات الرواية من سرد متعدد الأصوات، يتشابك معه وصف بعدسة السكون حينا، وكاميرا الحركة والصوت أحيانا أخر، واندغام حوار الذات، واسترجاع الذكريات تارة، مع حوار الآخرين أطوارا أخر، وخمود الصراع هنا، وتأججه هناك، وانبعاث التأزم مع أول خيط في الرواية، وتعاظم جدائله في انفتاح أحداثها، لتصير، في نهاية مطافه، جملا لا يجد لسمّ خياطة نافذة، تماهت معها حبكة الرواية لتصطنع التشظّي في عنصر الأمل، ويمسي الخداع والتيه انعكاسا متناثرا لها.