ليس سماء السعودية ولا أرضها قابلة لأن تكون مكانا لتجارب الحمقى الحالمين بلمس شيء من جسدها الذي لا تحده جغرافيا أو يقولبه تاريخ. فهذه البلاد التي تتعامل مع هذا العبث بحكمة لا متناهية، تدرك أن للطيش حدا، وأن العبث تحت أقدامها لن يكلفها سوى ركلة بسيطة، تمكن رؤوسهم من استعادة وعيها والتنبه إلى أنها لن تتجاوز دائرة حلمها بأن تثير انتباه هذا الكيان ولو لوهلة، وما هذه الصواريخ والطائرات التي تلقى بعشوائية يصنعها الرعب والارتباك، وما هذه الكلمات التي تتماوج كأجساد الأفاعي في كل اتجاه يسعى لمس هذا العلو، إلا إفرازات طبيعية للشعور بالربكة والانهزام أمام هذه القلعة الشاهقة، والتي سبق وأن تهاوت عند أبوابها أحلام وأطماع الكثيرين، إنها مرايا تعكس عدم القدرة على فهم هذه السياسة التي لا تفهم في القاعات الصغيرة وعلى حواف المنابر المشحونة بالحنق والرغبات البشعة. لست هنا بصدد الحديث فقط عن تلك المحاولات التي تترجم واقعا بائسا وتحركا فاشلا نحو زعزعة ولو زاوية صغيرة من زوايا هذه الأرض، ولكن للحديث أيضا عن حالة كانت ولاتزال شاهدا على هذا الطمع وتمني زوال الخير عن أرض عاشت على خيراتها الأمم، وأعني أن الأمر لا يتعلق بالساسة أو الجيوش أو الأحزاب والجماعات فقط، بل إنه يشكل مشهدا يتكرر كل لحظة في كثير من الأوساط الاجتماعية والثقافية، حيث يرى المتابع لما يذاع علنا أو سرا، مدى ما وصل إليه غليان القلوب على هذا الوطن، الذي كان ومازال بلسما لها ومنبعا لوجودها، ومدى تمني بل والدعاء والتوسل لله بأن تسقط ويتمزق هذا الجسد، وأن يلحق به ما لحق بغيره، وأن يرزقهم الله رؤية اليوم الذي يرون النار تسري في أنحائه، وهم في الوقت نفسه يعيشون الفصام العقلي في تعاملهم معه، كونهم يسألون الله ليل نهار أن يكون لهم موطن قدم فيه، يمكنهم من العيش والتكسب، لأنهم يدركون الحقيقة الكامنة في جوهره، ويتعاملون في شعورهم المزدوج معه كتعامل المتذوق للعنب الحامض، وهذا المرض الذي عايشوه طويلا، تحول الآن إلى سلوك جنوني، لم يمهلهم طويلا، حتى تحرك بفوضى عارمة وبدأ في ضرب نفسه تحسرا على عدم قدرته للوصول إلى ما يريد، هذا السلوك الذي يعكس كرها عميقا كان يقدم على أطباق الود، مثلما يفعل حامل السم بطبق يقدمه إلى ضحيته، إلا أن الضحية هنا لن تكون سوى تلك العقول التي تعيش وهمها الأخير بعد أن عبرت مراحل الكمون إلى السلوك الإجرامي الظاهر إلى أن تعبر إلى مستقرها في جحيم السياسة ونهاية الوجود في كل أشكاله والخروج من فلك الحضارة إلى منافي العدم والانحدار إلى الهاوية، بإذن الله. أصبح الحديث في أمنيات أن يصيب هذه الأرض كل مكروه خلقه الله، حديثا ممتعا لجماعات وأفراد (وهم قلة لايمثلون سوى أنفسهم) وينتمون للموت وليس للحياة التي وزعتهم في بعض جهات الأرض، لم يعوا في السياسة شيئا ولم تولد في أفواههم القدرة على الكلام، إلا بعد أن أصبح الحديث عن السعودية هو الهدف وهو الميدان الذي يمكن أن يجرب فيه كل واحد منهم تمكنه من صياغة أقذر الكلمات وأبشع الصور وأوهن التصورات عن مستقبل بلاد لايلام من يحقد عليها، كونها تعيش قفزاتها الكمية والنوعية بشكل مذهل وتسير بخطى سريعة نحو السيادة والقيادة التي كانت سابقا وتتضاعف الآن لتشعر هؤلاء بأن وجودهم مهدد وأن بقاءهم إن لم يسر في مضمار هذه الخطى، فإنه سيكون شكلا من أشكال الماضي وصوره. ومقابل ذلك، أتساءل، أين نحن من هذا، هل سنظل على تلك النوايا التي ربما ساعدت أمثال هذه البشاعة السياسية والاجتماعية والثقافية على الظهور؟، وهل قدم مثقفونا وشعراؤنا وإعلاميونا ما يواكب هذا الجنون بحالة حركته ويخالفه مضمونا؟ هل ستبقى كلمة (السعودية) تمضغ وتلاك في أفواههم دون أن تقاوم، بالوعي والمنطق الهادئ الرصين الذي قامت عليه آليات العمل السياسي بها؟.. إننا أمام حالات تشكل ظاهرة كبرى من العمل على تشويه الصورة وإحداث الفوضى الضبابية في عيون من يسعى للاستمتاع بما تحمله هذه البلاد من مضامين. ففي تنبؤات مشعوذيهم تسمع وترى هذا وفي أحاديثهم في بيوتهم وفي برامجهم وكذلك في دراساتهم وقصائدهم، حتى أصبحت هاجسا لهم ربما يداهمهم حتى في المنام.. إننا بانتظار أن يعلن البقية ما تبقى من الحقد لديهم، لنعرف كيف يمكننا التعامل مع صخب الأطفال، إما بإرشادهم إلى سبب هذا الجنون وكشف آليات ومخططات حروب كامنة في قلوبهم، أو تركهم يعمهون في وحل هذا الطغيان المستمر! * كاتب وأكاديمي سعودي