لم ترفع (أم سعيد) ظهرها إلا مع دنو وقت الإفطار، عندما استقام صلبها رأت عين الشمس تطمي. فكّت غرزة ثوبها. ولفّت شرشفها على رأسها، ووضعت محشها في سند الركيب. وتناوشت تبّة مرتفعة، وشاهدت أمام باب جارتها (غالية) شنطة قديمة مزروع بها ريحان، جمطت بكفها من زهر الريحان، وربطته في طرف الشرشف. تصايح الصغار في المساريب «آهو وذّن، آهو وذّن» أخرجت حبات تمر من عِدلة، ووضعته أمام زوجها، وولعت الطباخة ووضعت عليها شربة القهوة، وعندما فتحت ثُمّ القربة لتملأ الغضارة، نظرت إلى الزافر، فتذكرت صغيرها المعلّق في العرعرة، فكت فم القربة وتركت الماء يتصبصب في الطشت، ولم تلتفت. كانت ظلمة الليل شديدة، انطلقت تولول «يا عوضي عوضاه» وصلت وانتشلت الميزب وضمّته بمن فيه على صدرها، فأنشب ثعبان أسود أنيابه في قدمها الحافية. شعرت باللقصة. فشدّت رضيعها بقوة، كانت حرارة السم تتصاعد في جسمها، فوضعت فمها في فم الرضيع، وعندما أشعل الجماعة الأتاريك، وتصايحوا (الفزعة) للبحث عن السيدة الراضية المرضية، هالهم ما شاهدوه وأخرسهم المنظر، وجهها كان يضيء، ورضيعها يمسك بشرشفها ويبكي بكاء حاراً. لم يستطع الفقيه تمالك نفسه، ردد بعض أفضالها عليه، فسقط مغشياً، حمله الحضور، فيما حمل النساء أم سعيد وأقسمن بالله أنهن يحملن جسداً أخف من الريشة. أفاق الفقيه، وجاء لبيت أبو سعيد، عزاهم، وقال بصوت محشرج «يا جماعة الخير، الفقيدة شهيدة. لا تغسّل، ولا تكفن، ولا أحد يطيبها، نصلي عليها الفجر، ثم نواريها» سأله ابنها البكر: في طرف الشرشف عقدة بها بذور ريحان يا فقيه، نفكها. نهره: لا تفك و لا تربط، كل شيء كما هو. خلها تلقى ربها بصومها وريحانها. لم يعد للعائلة أي نفس في صرام ولا دياس. جاء العريفة، وناشد أبو سعيد يسرح يكمل حصاد الحنطة لا تعشب في الركايب، فعلّق: جعلها ما تنكف. فاحتزم أهل الشيمة، وأتموا الصرام، وداسوا، وروّحوا الحبان والعلف. كبر (عوض) وكل ضحى جمعة يحمل إبريق الماء ويذهب إلى المقبرة، يسأله أبوه: وين تغدي يا عوض. فيردّ «أسقي ريحان أمي». علمي وسلامتكم.