انعقدت البلاد من الجال للجال بسنابل البُرّ المثقلة بحنطة شوقبية، وكان الأمل يحدو القرويين أن ينجزوا الصرام قبل ما يدحنهم شهر الصيام. أمّن كل بيت ثلاثة أمحاش مسننة، وهيأ الصغار المساطح لنقل الحُزم على الرؤوس والدواب، سرحت القرية بكاملها في نهار صيامه أوجب ولكن ما على كادح حرج. حملت (أم سعيد) رضيعها في الميزب، علّقته في العرعرة، وأوصت شقيقه (شيبان) ينتبه له، فيما استلمت هي ورفيقاتها أول ركيب، وانفردت «أم سعد» بحبك الفتايل للتربيط، وبدأت الحنمة تخيم على الوادي «قدّم شرعك، يا ذنب البس، واما قدّمت قدّمنا لك». في ركن من ركيب الدميسة بئر، محاط برأسها صخور محكمة لحفظ التربة من الانهيار، انشغل «شيبان» عن الانتباه لأخيه الرضيع بمراقبة (الحبيني) يخرج في أعلى صخرة، ويؤمي برأسه إلى أسفل وأعلى بسرعة. سأل أبوه المنسدح في الظل: وش يسوي الحبيني يابه؟ فأجابه: يراكع. كان الفقيه فاضيا في رمضان، ما معه لا ضيعة ولا بيعة سوى انتظار زكاة الفطر التي سيدفعها له أهل القرية آخر ليلة مقابل صلاته بهم طيلة العام. قرر أن يقطّع الوقت بتدريس الصبيان وتحفيظهم ما تيسر من كتاب الله، يفرش الهدم المتهالك تحت ظل حماطة ذكر من بعد صلاة الظهر، ويبدأ يرتّل «الحَمْدُ لله» ويكررها عشرات المرات، ويهز بدنه للأمام والخلف وهو مغمض عينيه، وكلما تهب الهبوب يطلق بعض الأصوات، وتتساقط حباة الحماط السايب في حثول الصغار، كان (سعد الأشوص) شقياً إذا ما وقع في يده حبة رجم بها «شيبان الأنخ»، فيصيح مردداً كلمات لا يفقهها الفقيه، لكنه يعرف السبب فيقول دون أن يفتح عينيه: يا أشوص كب الشقاوة كبوك على وجهك في ملّة حامية. بعد العصر يعقد حلقة أذكار وتسبيح ويتظاهر بالبكاء والخشوع ويلقنهم أحاديث عن الصدقة في هذا الشهر وأنها بألف، ويضيف خصوصاً على الفقهاء، وإذا تيقن أن الرسالة وصلت قال: صفّوا قدامي أحرّزكم. ويتلو على رؤوسهم المعوذات والإخلاص وقبل الانصراف يقول لكل واحد: سلّم لي على أمك ولا تكثّر تراني ما غير لحالي في المسيد، ويضيف «وش حدّ الصايم يا حباني». للحديث بقية. وكل عام وأنتم بخير.