لا يتحدث لنا أحد على أن الأجهزة القانونية والقضائية في تركيا هي مستقلة، وأن هناك استقلالاً للسلطات الأساسية في الدولة، وإلا كيف نفسر وصول القس الأمريكي إلى بلاده بعد أن اتهمته السلطات القانونية التركية بأنه كان جاسوساً، وقالت فيه السلطات التركية ما لم يقله مالك في الخمر؟ إذن نقطة البداية هي أن السلطات القضائية والقانونية تعمل وفقاً لما تمليه السلطة التنفيذية، وهذا ما أثبتته الأيام القليلة الماضية وبعيد اختفاء المواطن والصحفي السعودي جمال خاشقجي. منذ اللحظة الأولى وأجهزة الدولة التركية لا تتعامل مع الأمر باحترافية، وعمدت إلى محاولة استغلال القضية لأطول فترة ممكنة وبأقصى قدر ممكن للضغط على المملكة العربية السعودية. فمنذ اللحظة الأولى تحدث ياسين أقطاي عن اختطاف وقتل واستنتاجات راح يبوح بها لوسائل إعلام لم تترك مناسبة إلا وكالت الاتهامات للمملكة. تحولت القضية إلى قضية تسريبات، تتحدث مصادر في الشرطة التركية إلى وكالة رويترز عن قتل خاشقجي في السفارة. من هي هذه المصادر؟ لا أحد يعلم. السؤال لماذا لم تؤكد الأجهزة الرسمية هذه التسريبات أو تنفيها؟ إنها لم تفعل، لأنها ببساطة تريد شن حرب إعلامية على المملكة وبأوامر عليا. الضحية الأولى في كل هذه القضية هي المهنية والاحترافية، بغض النظر عن تفاصيل القضية، وهذه التفاصيل كانت منوطة بأجهزة تطبيق القانون كما هو متعارف عليه في الدول الحديثة، ولكن تحولت القضية إلى أداة للنيل من المملكة على يد أبواق تحولت بين ليلة وضحاها إلى خبراء جنائيين يحللون ويكتشفون الأدلة ويحددون المتهمين ثم يصدرون الأحكام. والدولة التركية واقفة تتفرج على تلك المهزلة، هذا إذا لم تكن هي نفسها من شارك بها. تركيا تلك الحريصة على سيادتها والحريصة على قانونها جرت فيها عشرات الاغتيالات على يد المخابرات الروسية لعناصر وقادة ينتمون إلى الشيشان ومع ذلك لم تحرك ساكناً، بل على العكس تدخل اليوم في حالة تحالف مع الروس في أكثر من قضية. جمال خاشقجي هو مواطن سعودي والدولة السعودية حريصة على استجلاء حقيقة ما حدث معه أكثر من السلطات التركية ولكن الرسالة التي وصلت خلال الأيام الماضية لم تكن لتضع البلدين في خندق واحد في ظل ظروف إقليمية ودولية شديدة التعقيد. أبواق تصدر من تركيا وأشخاص يكيلون السباب والشتائم يقطنون في هذا البلد وكل ذلك تحت يافطات واهية، ولكنها في نهاية المطاف جعلت شقة الخلاف والاختلاف مع تركيا تزداد يوماً بعد يوم. هناك اختلافات على مستوى المجتمعات العربية حول قضايا متعددة وهذا ما جعل لتركيا مريدين وأتباعاً، خصوصاً بعد التحالف المعلن بين تركيا وجماعة الإخوان المسلمين. منذ اللحظات الأولى لقضية جمال خاشقجي عبرت المملكة العربية السعودية عن تعاونها مع الجانب التركي، وأعلنت أنها سوف تفتح قنصليتها أمام أجهزة الأمن التركية، ثم أرسلت المملكة وفداً أمنياً إلى إسطنبول للتنسيق مع الجانب التركي. ولكن ما الذي حدث؟ مكتب النائب العام أعلن أن لديه أدلة تشير إلى مقتل جمال خاشقجي في القنصلية، وكما هي العادة التصريحات لقناة الجزيرة القطرية. كان هذا التصريح بعد مرور ساعتين على دخول الأجهزة الأمنية التركية إلى مقر القنصلية، إن عملية جمع الأدلة ثم تصنيفها وإرسالها للمختبر ثم الانتظار لظهور النتائج وهذا يحتاج على الأقل 48 ساعة مع وجود أجهزة متطورة جداً. وطبعا طالما لم ينفِ مكتب المدعي العام هذه المعلومات فهذا يعني أنه مسؤول عنها. وطبعاً لا المدعي العام ولا قناته المفضلة للتسريبات يهمهما أن يقتنع المشاهد بما يدليان به من معلومات. عدم مهنية السلطات التركية من أدناها إلى أعلاها خلق مشكلة عميقة وشرخاً في العلاقة بين البلدين، المملكة العربية السعودية وتركيا. ومع ذلك فإن خادم الحرمين الشريفين يدرك أهمية المحافظة على شعرة معاوية باعتبار أهمية البلدين؛ لذلك شهدنا الاتصال الهاتفي مع الرئيس التركي. ولكن هناك مرارة في أعماق المواطن السعودي وهو يرى من كان يعتبرهم أشقاء يتآمرون ويشنون حروباً إعلامية على بلدهم بلد الحرمين الشريفين. سوف يسدل الستار على قضية جمال خاشقجي بشكل أو بآخر، ولكن المملكة سوف تبقى ثابتة كأشجار النخيل، عميقة الجذور وأحلامها تبلغ عنان السماء. * باحث في الفلسفة السياسية، خبير في قضايا الشرق الأوسط ramialkhalife@