يستوفي الشاعر أحمد عائل فقيهي في ديوانه «صباح القرى» -(النادي الأدبي بالرياض، الطبعة الأولى 1439 -2018)- جملة من الإمكانات التقنية التي يحفز فيها قصائده لتكون أكثر استقصاء، وأكثر محاولة للوصول إلى تشكيلات الصور، وتجليات من المعنى. لنقل: إن الشاعر يصبو إلى تكوين لوحة متكاملة من الوجهة التشكيلية الشعرية تتآلف على بناء طرز من الأنساق تتواتر فيها الأشكال الثلاثة المعهودة: البيتي والتفعيلي والنثري، مع التأكيد على صلابة البنية الشعرية فيها، والتجريب الداخلي الذي ينزعُ إلى استشفاف رحيق اللغة، واستبطان المستويات الأسلوبية المتعددة. يضم الديوان 25 قصيدة، وأتصور أن فقيهي تأخر جدا في إصداره، إذ يضم الديوان جملة من القصائد المتفرقة زمنيا منذ ثمانينات القرن العشرين حتى السنوات الأخيرة. وهذه المسألة التي تتمثل في تأخير صدور نوعية معينة من الأداء الشعري كتبت في مرحلة ما تجعل ملاحقة القصائد بأسئلة من قبيل المجايلة الشعرية، والتحديث الشعري، وتحولات الوعي الشعري الحداثي، وهل تتواءم مع المرحلة الراهنة العاصفة للشعر؟ أمرا مشروعا من وجهة نقدية. بيد أننا سنقرأ الديوان بكثافة على اعتبار أن ما هو شعري لا يرتبط بالضرورة بعصر ما، فالشعري كامن ومتجلّ ولا يموت أبدا بالتقادم. قصيدة المستهل بالديوان الذي كتب مقدمته الدكتور يوسف العارف، حملت عنوان «البكاء.. تحت خيمة القبيلة» وجاءت البداية: صباح القرى يا صبايا الحي صباحًا توضّأ بالصحو صب على القلب إشراقة ومطر صباحًا له نكهة العشب تسربل بالغيم وضوع في الرمل إضمامة وحجرْ لتلك البلاد لإغفاءة البنت تلك التي أرضعتني حليب الوداد وألقت على شفتي قبلة ووترْ البدء والأجواء قروية، البدء صباحي ريفي، بدء فرح بالمكان، بالقرية، وهو في هذا الفرح يوقّع تعبيراته بشكل غنائي شفيف ومكثف، لكن هذا يأتي بمثابة إغراء للقارئ، الذي قد يتسامح إيقاعيا مع بعض الكلمات ليفرح أكثر بهذا الغناء، ثم تنهمر المواجع بعد ذلك في حشو القصيدة ومكامنها وطواياها، لنصل للوطن السراب، والموت بجمر اللظى، ومن ثم استدعاء حميمية الماضي، واستدعاء جماليات مكان بعيد (القرية) لمضاهاته بمكان يحياه الشاعر (المدينة) ليحدث هذا التوتر حقيقة أم مجازا ما بين مكان ومكان، وتصبح الذكرى هي الأفق الذي يؤطر هذا التوتر ويحرك درامياته. يتقدم أحمد عائل فقيهي صوب قصيدته بعد أن وشّح أفق المستهل بغنائية جلية، مواصلا غناءه في: «وردة الوقت»، وفي: «أبيات قليلة لعشق كبير» ثم يفاجئنا بهذا القطع الشكلي الجمالي مع هذه الغنائية ليتوفر على كتابة القصيدة – التجربة، التي تنهمك في البحث عن دلالات أخرى، ورؤى متداخلة أكثر كثافة وأكثر انفتاحا على العالم بمكنوناته، بميتافيزيقاه، بمكامنه وجواهره، بأسئلته وشكه وهواجسه. هكذا يجرب فقيهي هذا الفضاء بشكل أكثر استقصاء وأكثر استشرافا، حيث تتخذ القصيدة عنده جملة من المدارات تتمثل في: الرؤية الكونية، والخروج من الذاتي الغنائي الأحادي إلى البحث الكوني الطليق الذي يسفر عن مساءلة الأرض، والطبيعة، والمكان والزمان كما في قصائد: «عيناك والعشق في زمن الغربة»، «الأبيض المتوسط»، و«هذا دمي يا سواحل»، و«صور عن حركة العاشق والأرض»، وتمثيلا يقول: «أيتها الأرض. متى تنهضين؟ كطيور النوارس، كفعل القبلة الأولى، كفعل الممكن والمستحيل»، فيما تتخذ هذه المدارات عمقا زمنيا تتمثله باستداعاء الموروث، كما في «عروة بن الورد»، أو التحاور مع نصوص ماضية، أو تمثل الشخصيات الشعرية والأدبية كما في النصوص المهداة لعبدالله الصيخان، وعبدالله نور، وقاسم حداد، ومحمد حسن عواد، أو استقراء المكان كما في قصائده عن «جيزان». ويكتب فقيهي ذلك كله برؤية تجريبية على مختلف الأنساق التصويرية والتركيبية التي تختزن مستويات من اللغة، واستلهام البيئة وأجواء القرية إلى حد كبير. وعلى الرغم من أنني لا أحبذ الإشارة إلى بعض الأخطاء غير المقصودة، لكن سأشير إلى بعضها: فهناك خطأ طباعي في صفحة (45) يبدو الجسد مؤثث ( مؤثثا)، وربما كان من الخطأ استثمار الضرورة الشعرية في قافية بارزة في آخر بيت في قصيدة: «أبيات قليلة لعشق كبير»، حيث تم رفع الفعل (أحلم) وهو مجزوم في جواب الطلب (عشقي تهاميّ دعوني أحلمْ) / ص 49 كذلك في صفحة 92 «وأرى عينيك، سحابتا قمار وجراجيح، رابيتان من عشق بري أخضر»، والأصح: «سحابتيْ ورابيتين». من وجهة شكلية ينضو أحمد عائل فقيهي البعد الإيقاعي العروضي الموزون، ويخلعه واضعا إياه في الخلفية الإيقاعية الشاملة لقصائده، حيث يتواتر الوزن أحيانا ويختفي، أو يتوامض ويتوارى، لتصبح الإيقاعات الشاملة الأوسع رحابة من الوزن التفعيلي هي المدار الذي يشكل فضاء قصائده، مستثمرا في ذلك رؤية أدونيسية طرحت منذ أعمال أدونيس: «وقت بين الرماد والورد «حتى» أبجدية ثانية»، وما بينهما من أعمال، وهي طريقة آثر أن يتبعها عدد من الشعراء خاصة شعراء السبعينات في العالم العربي كما لدى قاسم حداد أو رفعت سلام وحلمي سالم تمثيلا. ديوان: «صباح القرى» من الدواوين الشعرية المهمة التي توثق جماليا لحركة الحداثة الشعرية في المملكة، وهو يحتاج إلى قراءات أكثر تأملا وأكثر استبصارًا للوقوف على مكامنه ونبضاته وقسماته الداخلية. * شاعر مصري