ارتقت في الأمسية الشعرية الأولى في سوق عكاظ الذائقة، مساء أمس الأول (الجمعة)، كون الشعراء المشاركين قامات عربية لها حضورها المائز في المشهد الشعري والأدبي، وكأنما كان كل من الشعراء يدرك ما سيلقيه الآخر، فاختط كل منهم مساراً ينبئ بأن القصيدة عفوية إلا أن إحالاتها الكبرى امتدت عبر قرون لتستحضر امرأ القيس وأبا العلاء المعري ومحيي الدين ابن عربي وإخوان الصفا والفيتوري. وألقى الشعراء قصائدهم على هضبات أسلافهم لتتصل حالة اللاوعي بالإلهام والولادة المتجددة لقصيدة النابغة، ما أدخل الجمهور الكبير في حالة من الوجد والعاطفة بحكم التعابير الصادقة والمتواشجة بين الشاعر وبين المتلقي. وكان للشاعر المصري الدكتور حسن طلب حضوره البهي بإطلالته السبعينية البهية، ليلقي من ديوانه «إنجيل الثورة وقرآنها» مقاطع من نص طويل بعنوان «ما كان في الإمكان كان»، وعبّر بحكم خبرته الطويلة شعراً وفلسفة عن تحولات العالم العربي برسائل تقوم على خصائص فلسفية خاصة عبر سجال حواري متسائل مع أبي العلاء المعري ومحيي الدين ابن عربي وإخوان الصفا. وكعادة الشاعر الشاهق جاسم الصحيح في خطف الأضواء وسحر الألباب يحظى (أبا أحمد) بالتقبل من المريد، وهو ينتقل من الهمس والترنيمة إلى حالة الوجد المتصاعد الوجد، ليرتفع بالحضور إلى حالة التجلي إلى سرّ الشاعرية «الميتافيزيقي»، ويسمّر بصائرهم على مرآة داخله الصافية. وفي نص ما وراء ال50 شاهد على ثراء معجمه ومنه «ما وراء الخمسين إلا رفات، فتعالي لكي تجيء الحياة». كما ألقى نص الشاعر يحنو على ظبي الفصاحة كلما، علقت قرون الظبي في معناه«وحوارية مع امرئ القيس، منها»عرفتك من صهيلك في خيالي، فقف لنضيء مصباح الجدال، كأن القوم قد عقدوا برأسي، لهم سوقاً وجاسوا من خلالي«. فيما استنهض الشاعر العماني جمال المُلا العرفانية المرشّدة وهو يبحر بنا في قصيدة (الرسول)، ومنها «أمشي على الماء.. هل في الماء من قبسٍ، لما بدوتُ اختفى.. لما اختفيت بدا، يرتد صوت من النار التي اتقدت، يا رب.. يارب من فينا الذي اتقدا، وكنت وحدي في الوادي أرى حجباً، تكشفت وأرى إذ لا أرى أحدا، وقفتُ أحمل ميلادا وأسئلة، وحيرة شربت من خافقي أمدا». ومسك ختام الليلة الشعرية الأولى مع الشاعر السوداني محمد عبدالباري، الذي جمع بين نوادر المفردات وسيل الإلهامات، وكسر الحاجز الفاصل بين عاشق ومعشوق، لتغدو اللغة الساخنة معبراً ومعبّراً عن التناغم بين الشاعر وشعره، وألقى نصوص «شكل أول الوجد تهبّينَ كالتعبِ النبويّ، ملألأةً بالوضوحِ الخفي، يسميكِ وقتُكِ (ما لا يُذاقُ) أُسمّيكِ من (ذاقَ لم يكتفِ).. أُسميكِ نهرَ الهواءِ الغريبِ لأني عرفتُ.. ولم أعرفِ..، أيا امرأةَ اللحظاتِ الثلاثِ، تجليتِ (قبلَ...) و(بعدَ...) و(في...) لوجهكِ متقداً في الجبالِ أشقُ الدروبَ ولا أقتفي، تشدينني من جراحي فأدنو إليكِ، ولا جُرحَ إلا شُفي، يقولُ لكِ الوردُ في داخلي، بحقِ صلاتي عليكِ اقطفي». وفي نص الأصدقاء تجلى الحس الفيتوري (وباسمهم في الأعالي صلصل الجرس).