الشاعر محمد الفيتوري مثَّل بالنسبة لي في بدايات انفتاحي على قراءة الكتب الشعرية واحداً من أهم الفتوحات الشعرية وذلك عبر ديوانه «معزوفة لدرويش متجول». من خلال هذا الكتاب صغير الحجم، كبير الحمولة الشعرية، توصلت إلى نبع شعري عميق ودافق، اكتشفت تجربة جديدة وأفقاً مختلفاً للقصيدة العربية وصوراً شعرية فائقة الجمال والدلالات وعوالم ومشاهد قريبة منِّي والكثير منها مألوف لدي، لكنهُ وظفَّها شعرياً بتلك القدرة الفذة التي تميزت بها قصيدته وأظن أن هذه واحدة من ميزات تجربته الشعرية، وهي القدرة على خلق أُلفة مع القارئ والاستحواذ عليه داخل النص الشعري عبر عوالم ليست غريبة عنه، لكنها نهضت بأجنحة جديدة وحفرت عميقاً في صلصال الإنسانية بكل ما يفضي إليه من أحلام وأمنيات وما يلوثه من آلام وانكسارات وخيبات وأوجاع. ظل الشاعر محمد الفيتوري شاعراً قوياً وبارزاً وحاضراً دوماً في المشهد الشعري على مدى كل العقود الماضية منذ بدايات بروزه وحتى حاضرنا الراهن، لم تكف قصيدته عن إشهار صوتها عالياً ولم يكف صوتهُ القوي عن توصيل زلزال قصيدته الجارف ولم يبارح الذاكرة والمتن الشعري أبداً، لأنه شاعر استطاع أن يكتب قصيدته التي تميزه وتطيرُ بأجنحةٍ قويةٍ من دون وصايا وأختام، قصيدة منسجمة مع تطلعات المراحل التي أنجزت خلالها ومعبرة عن هواجسها وهمومها، ضمن رموز الكتابة الشعرية أوان بروزه شاعراً كبيراً ومهمّاً عبرت قصيدته عن عنفوان وثورة خروجها وعصيانها لقوالب الكتابة الشعرية المتوارثة، وعن ثورات التحرر الوطني وعن الزنوجة وانشغالاتها وبروزها كتيار طرح آفاق جديدة في الكتابة واستلهاماتها ومعالجاتها، وأعاد توظيف الأسطورة واستثمارها شعرياً بمعرفة ودراية باهرة. ورحيله الآن يمثل غياب أحد الرموز الشعرية والعلامات الكبيرة في تاريخ الشعر العربي، لكنه سيظل أيقونة ومدرسةً في الكتابة الشعرية وواحداً من الرواد الذين انتقلوا بالقصيدة العربية إلى مرحلة جديدة وولادة جديدة على مستوى الشكل والمضمون والمواضيع والانشغالات الفنية والجمالية، وأنجز مشروعه الشعري فاتحاً آفاقه نحو كتابة تؤسس خلودها المجيد. وسيظل شاعراً خالداً ورمزاً شعرياً وستزهرُ قصيدته في المستقبل أيضاً. * شاعر سوداني.