لا أفهم لماذا أشعر في هذه الأيام أن دمعي سخي، يتدفق من ركن عيني حينما تهفو رائحة رمضان، لا أدري إن كانت فيروز تعنيها فعلاً عندما قالت: «أنا عندي حنين ما بعرف لمين»، لا أعتقد أن هذا البيت الضيق يتسع إلى كل هذا الحنين، فأنا أحن في هذه الأيام إلى أيام كان الحلم يشبه الحلم ونحن.. تشبهنا، أحن إلى أيام كنا نتعرى فيها من ألقابنا وأسمائنا، نسرق الوقت لنكون فيها نحن، نحن بكل تفاصيلنا المهترئة، بعيداً عن المجاملات والمهاترات والكذب الذي صنفوه في هذه الأيام إلى ألوان، وكادوا يعبئونه في أكياس جميلة كأكياس «الشيبس»، أحن إلى أيام كانت أمهاتنا يضعن في «الكانون» حبات «أبوفروة» يشوونه ونأكله بشهية في آخر الليل، قبل أن تدخل أجسادنا الصغيرة إلى الفراش لتدفئه، هل سمع أبناء اليوم بجسد يدفئ فراشاً وليس العكس، أحن إلى أيام لم يكن البشر مشغولين، بطول وقصر الثياب، في الدخول بالقدم اليمنى أو باليسرى، من شرب «السوبيا» حلال أم حرام، في مصافحة المرأة من عدمه، في ضيق جلبابها واتساعه، أحن إلى صوت الأذان المكاوي الذي ينساب كجدول الضوء في عتمة العالم والذي ازداد عتمة، أحن إلى ماء «الزير» وماء الإبريق «التنك»، أحن إلى مركاز أبي ورش الماء أمام الدار بعد صلاة التراويح، وإبريق الشاي المخدر، وصوت ضحكات رجال الحارة المتكئين على المقاعد الخشبية باطمئنان، ذاك المركاز الذي محيطه العالم والدنيا والحياة، أحن إلى أيام كنا نرفل فيها بثوب الصحة فيما نحن نشكو قلة اللحم، كنا نصمد على عدم شرائها لكن ليس على اشتهائها، أحن إلى حبل الغسيل في النوافذ المكاوية تحمل أسمالا وخرقا ذات ألوان فاقعة ومتنافرة، أحن إلى أصدقاء العمر، عبدالله الجفري، محمد صادق دياب، عبدالله أبوالسمح، من كانوا يضبطونني دائماً متلبساً بطفولتي المستترة خلف كومة من الأسرار التي لم أكن أبوح بها لأحد سواهم، أرتاح أنهم ضبطوني متلبساً، فأنا إنسان كغيري، فالبشر بحاجة إلى شهيق البوح الذي يخرج مع زفير الشوك، شوك نما عليه لحمي وشخصي، يأخذني كلما لاح في الأفق عصفور يطير وحيداً في سماء ملبدة بالأسرار، حنين يرشح في كل رمضان بعد أن تنطفئ النجوم ليمر القمر في مداره مطأطأ الرأس فيدوس سحابة نام في سريرها الحنين فبكى، أحن لأمي وكيف كانت تتفحصني كلما عدت من السفر، تلتصق بي، تتحسس يدي وكتفي وكفي ولا تكف عن البحث في عيني عن أثر التعب، تعرف بإحساس الأم ما أمر به، تنظر إلى ما تحت جفني السفلي، تلك المساحة التي تتسع كلما تقدمت بك السنين، إلى شعري أو ما تبقى من شعري، كأنها تريد أن يعود إلى سيرته الأولى عندما كان كليلة بلا بدر، تنسى أنني كبرت، أنظر إليها، أتذكر، لا أعلم أياً منا يذكر الآخر بعدد السنين وخطوات العمر التي ارتسمت على وجنتيها، جبينها، فمها، حتى أصبح وجهها كورقة شجرة من أشجار الجنة، أتحسس يدها، أرى العروق الخضر تتمرد على الجلد، أتفحص طولها المتواضع الذي يصل إلى دون ذقني، هي التي كانت تحملني إلى الطبيب، السوق، بيوت الأقرباء والمعارف، إلى كل الأمكنة، أراها تتقلص، تتراجع إلى زاوية العمر، أحضنها، أنظر إلى عينيها في كل سفر، فقد يكون البعاد الأخير، وقد كان، أمضيت ثلث عمري بعيداً عنها، وليتني لم أفعل.. لكم أحن في هذه الأيام أن أغادر هذا الجسد وأهيم بعيداً عنه لألحق بها وأقضي معها بقية العمر.. فقد أتعبني بعادها، أتعبني كثيرا.! * كاتب سعودي