ذهبَ كثيرٌ من النقاد إلى أن الشاعر عبدالرزاق عبدالواحد يمثل خطّاً كلاسيكياً محافظاً. وذهبَ آخرون إلى أنهُ يمثل امتداداً للشاعر محمد مهدي الجواهري، وفي ذلك التوصيف الكثير من الصحة في رصد الملامح الجمالية لقصيدة عبدالرزاق عبدالواحد. فأغلب قصائده تستثمر شروط الكلاسيكية، لكنها كلاسيكية أخرى من نمط آخر، حديثة، متطورة استمدَّ منها الإطار العام. الوزن الواحد. والقافية الموحدة. واللغة العالية الفخمة والتراكيب القوية وعدم الإسراف في الخيال، والتحرك إلى المتلقي على نحو واضح مباشر مبتعداً عن الغموض قدر الإمكان. غير أنه يبارح الكلاسيكية ويقترب من الاتجاه الرومانسي والاجتماعي، لاسيما في قصائده بعدَ احتلال العراق عام 2003، إذ تحولَ الشعر لديه إلى تنفيس عن تجربة وجدانية حارة ومشاعر ذاتية ضاغطة ومواجهة واقع مثخن بالجراح أفرزتهُ مخلفات الحرب، يتصاعد في شعره الوطني حنين جارف إلى الوطن ولوعة لا تهدأ بسبب المآسي والنائبات التي دمَّرت وطناً تأريخياً مثل العراق وأنهكت شعبهُ ومزّقت ثوبهُ العروبي الأصيل. شعرهُ الوطني يصدر عن تجربة صادقة مؤلمة لا تسمح لَهُ بالانسراح بعيداً من الموضوع، ولا تعطيه فرصة الانفلات في الخيال.. قصيدته الوطنية مركّزة، مكثفة. تتحرك وفق موضوع واحد، تستثمر غالباً تقنيات التضاد والمفارقة الجارحة، وتحلق عالياً في تشكيلها الإيقاعي، يقول: أَيُّها النازفُ دمعاً ودَما/ ما الذي ينفعُ والدهرُ رمى/ أغلقْ البيت واطفئ شمعَهُ/ كان ميلاداً وأمسى مأتما. لعلَّ هذين البيتين يختزلان مأساة الشاعر عبدالرزاق عبدالواحد ونزيف روحِه المفعمة بالمرارة وهو يُناجي نفسهُ بأداة النداء «أيُّها النازف دمعاً ودما...» يليه الاستفهام المفضي إلى الاستغراب والتعجب «ما الذي ينفع..» والإيمان بالقدر والذي ساقهُ بصيغة استعارية «الدهرُ رمى...»، ويستمر النشيج الروحي عبرَ البيت الثاني بطلبه إغلاق البيت وإطفاء الشموع كناية عن اليأس وقضاء الأمر. ليطلق إلى القارئ وعبرَ لغة تضادية قائمة على بنية المفارقة تلك اللوحة المأسوية «كان ميلاداً وأمسى مأتما». عبدالرزاق عبدالواحد الذي رحلَ عَنَّا قبل أشهر. الشاعر العراقي الوطني المعروف بموقفِهِ الثابت. شهدَ جميع الملمّات التي ألمّت بوطنِهِ العراق، وما ترك منها ملمّة من دون قصيدة أو قصائد. أما تلك اللوعة وذلك الشجن فقد كبرا واشتدّا بعدَ هجرتِهِ الوطن بعدَ الاحتلال عام 2003. فكان ديوانهُ «يا عراق» المنشور عام 2013 الذي أهداهُ للعراق وسطرَّ فيهِ أشواقَه وحنينه ونزيف روحِهِ. ارتأيتُ أن يكون «يا عراق» منهلي الأكبر في هذهِ الدراسة مع بعضٍ مِمّا نُشِرَ على الشبكة العنكبوتية، يبدأ قصيدتهُ «سيدي يا عراق» بالقسم وأي قسمٍ أن يقسم بعينيّ العراق!!: لا وعينيكَ لَم أنَمْ/ شاخصَ العين والقلم/ لا ذهولاً، ولا أسىً/ لا ذبولاً، ولاَ سَقَم/ إنمّا القلبُ فَزَّ في/ قفص الصدر فارتَطَمْ/ عالقاً في شغافِهِ/ مثلمَا الطيرُ في العتمْ. تعقبُ القسم معادلة عدم النوم المرتبطة بالذهول والأسى والذبول والسقم، لكنهُ نفى تلك المعادلة نفياً جازماً بالأداة «لا» التي تكررت أربع مرات في البيت الثاني.. كما ابتدأ بحرف النفي قسمهُ «لا وعينيك» وأقرَّ لعدم النوم حقيقة أخرى موجعة.. مؤثرة بكل مقاييس الإنسانية: إنمّا القلبُ فَزَّ في/ قفص الصدر فارتَطَمْ/ عالقاً في شغافِهِ/ مثلمَا الطيرُ في العتمْ. تلك الحقيقة التي صيغت بقالب استعاري كنائي جسَّدت براعة الشاعر في التصوير، فالوجع أودى بالقلب في غير مكانِهِ ليبقَى عالقاً لا يستقرّ. ليضع صورته النهائية عبرَ التشبيه التمثيلي «مثلما الطير في العتم» فلم يَعُدْ للقلب بصيرة أو بصر! اعتمدَ التكرار في القسم «لا وعينيك» في أكثر من مقطع في القصيدة دلالة على عمق الانتماء لأرض الوطن والقداسة والرفعة التي يحتلها في نفس الشاعر. وينتقل من تكرار القسم إلى تكرار النداء منادياً وطنهُ البعيد القريب: يا عراق الإبا يا/ قبلة الله والحرم/ أيُّها السافرُ الذي/ وجههُ قط ما التثمْ/ يا منيعاً على الشجا/ يا مهيباً على الألم/ يا عفيفاً على الأذى/ لا تدنّى ولا شتَمْ/ يا كبيراً على القذى/ كلّما ساءَهُ كظَمْ/ سيّدي يا عراق/ يا وطن العزّ والكرم. نعوتٌ متعددة والمنعوت واحد (العراق)، وصيغت النعوت بصيغة المنادى البعيد القريب، فهو يخاطب أو يُنادي الوطن البعيد في المسافة، القريب إلى الروح موشحاً إياهُ بصفاته التي عهدها.. المنعة والمهابة والعفة والرفعة والعزة والكرَمَ... عبر بناء قوي وأسلوب متماسك وقافية ساكنة صادمة. لينتقل إلى وطن اليوم بعد الاحتلال: حولَكَ الآن عصبةٌ/ من ذئاب، ومن بُهَمْ/ والغاتٌ ببعضها/ لا ذمام، ولا حُرَم/ أنفسُ كلّها قذى/ أوجهٌ كلّها تُهَمْ/ جوقةٌ من عقارب/ تلدغُ الجندل الأصم. المشهد السياسي شعرياً صورةٌ للمشهد السياسي في عراق اليوم، أو بالأصح المشهد الدموي الذي آل إليه، ففي الجزء الأول يخاطب شاعرنا عراق الأمس حيث اعتمدَ صيغة تكرار المخاطب المسند بأسلوب النداء «يا منيعاً»، يا مهيباً، يا عفيفاً...». حيث شعَّت الأبيات الستة الأولى بضياء كل ما تختزنه الذاكرة - ذاكرة المواطن العراقي - الموغلة في أصالة العراق المشبعة بمآثر تراثه ومفاخر ماضيه. في حين أدلهمّت الأبيات في الجزء الثاني بظلمة الاحتلال وأذنابِهِ «عصبةٌ من ذئاب... جَوقةٌ من عقارب... أنفس كلّها قذى... أوجهٌ كلّها تهم «وعبر لغة تشبيهية واستعارية. تشبيهاتٌ مستقاة من عالم الوحوش الضارية! ثمَّ تلتها صرخةٌ بصيغة الأمر «فانتفض أيها الردى... واعترض... وانهمر...» راجماً كلّ الطغاة. وتتجسَّد تلك المعادلة القائمة على المفارقة بين زمنين: الماضي الزاهر. والحاضر المظلم في قصيدته «عجَبٌ سكوتك». ونشيرُ إلى أن تلك المقارنة أو المفارقة ترتكز عليها معظم قصائده الوطنية بعد الاحتلال، يقول: عجبٌ سكوتكَ.. واحتمالكَ أعجبُ/ أنتَ العراق إلى متى لا تغضبُ؟!/ أنتَ العراق.. إلى متى تحني القفا؟/ عُمرَ العراق رجالُهُ ما حدّ بوا؟!. لنقف عند هذين البيتين، استفهامهُ فيهما يُفضي إلى التعجب والاستغراب بشكل واضح، لكن هذهِ المرة بصوت انفعالي عالٍ لا يخفى، فالمخاطب هنا سيدهُ (العراق) الذي انحنى، ولم ينحن يوماً، لكنهُ هنا ارتفع صوته في حضرة سيدهِ مخاطباً إياه بحسرةٍ ومرارة بأنك ما عُدت ذلك الشامخ المُهاب! فمتى؟! وكيف؟ ولماذا؟! وتستمرُّ متوالية الاستفهامات المفضية إلى التعجب في معظم أبيات القصيدة مصحوبة باستنكار واستثارة للهمم ودعوة إلى اليقظة والعودة إلى زمنٍ كان! هذا الذي كانَ الزمان يهابهُ/ أمسى ذليلاً يستجيرُ ويعتبُ/ يرنو لأيدي قاتليه، وأهلهُ/ جثث على أقدامهم تتقلَّبُ/ أفبَعدَ هذا الهول هولٌ يُدّرى؟!/ أفبعدَ هذا الموتُ موتٌ يُرهَبُ؟!/ كُنّا نموتُ على هلاهل أهلنا/ فمتى نموتُ وهُم دَمٌ يتصبَّبُ؟! تستمرُّ العلاقة التضادية التي اكتسحت معظم أجواء القصيدة وقرينتها الربط بين زمنين (الماضي - الحاضر) أنت الذي كانت جميعُ عروشها/ تهتزُّ لو عَرَضاً عيونُك ترقبُ/ ينهارُ أجرَؤهُا فيلزم حَدَّهُ/ وخسيسها من رُعبِه يتأدَّبُ/ أصبحت لا تُخشى ولا تُتَجنّبُ/ بل أنتَ من يخشى ومن يتجنَّبُ. فذلك الجزء العزيز من الأمة قد هوى واستباحَ جسدهُ الأعداء والخونة والفاسدون، فكيف لا تبكيه لغة الشعراء وقد بكتهُ أمة العرب جمعاء؟! ثكلتني أمي إن تكن أنت الذي/ بالأمسِ أعرفهُ الرَّهيب الأهيبُ! بناءُ قوي، وتركيبُ متماسك، وإيقاعٌ متدفق يتناسب وحرارة تجربته، يتحقق من خلاله ذلك التواصل الكلي بين الشاعر - النص - المتلقي والانسجام الشعوري بين الأطراف الثلاثة يطلق التجربة إلى ساحة الإبداع. قد تتقلص في بناء القصيدة الوطنية أساليب الانزياح والصور التي تطلق النص إلى أفق واسع من التخيل، لكنه استطاع بناء لغة متماسكة مؤثرة في نفس المتلقي باستثمارهِ أساليب أخرى كالمفارقة والتضاد والتقديم والتأخير والاستفهام المفضي إلى معانٍ متعددة، قدَّم لنا تجربة إبداعية مؤثرة تضع المتلقي في دائرة الجاذبية، ولاسيما أن الشعر الوطني شعرٌ جماهيري موجّه إلى كل فئات وطبقات المجتمع. واقعٌ مؤلم يجسّد حكاية مدينة عريقة سادَها الدجى فأخرجها من ثوبها التاريخي، حيث انقلبت الموازين، وتعاكست المقاييس المنطقية، فالفاسد يحكم، والسلطة رعاع، والوطن بضاعَة، والشعب ضحايا! واقعٌ مرير أُهدِرتَ فيه قيمة الإنسان حيثُ تكاثرٌ في عدد الفاسدين، وتناهٍ في الحقارة والإجرام! يذكرُ أحياء المدينة (الكرخ، الرصافة، الأعظمية) وهي مبعثُ حياته، وبعدها (يبست روحه) جفّت وذهب ذلك الرونق على سبيل الاستعارة المكنية، ومفردة (يبست) لها دلالة أن هنالك كانت شجرة مثمرة أو وردة يانعة نضرة فيبست حال انقطاع الماء حيث (صوّحت أبهى سنادينه). «فيها سأزحف مقطوع الشرايين» صورةٌ كنائية، الذبيح يزحف نحو أهله الموتى وَهو في رمقه الأخير يكنّي بها عن عمق الوجع وهو ينشجُ أَلَماً وحزناً. ويستمرُ النشيج والأنين المحمل باستفهامات التعجب والاستغراب مناجياً صبرَ أيوب للمرة الثانية (المرة الأولى كانت في التسعينات من القرن الماضي حين كان ديوانه «صبر أيوب» حيث ضمَ القصيدة بجزئها الأول. يقول: الآن ضاقت على أقدامكَ السبلُ/ فانظر إلى أين تمضي أيها الجملُ؟!/ أمس احتملتَ بعذر الصبر مخرزهم/ واليوم قُل لي بأي العذرِ تحتملُ؟!/ والصبرُ لو كانَ في محضِ الأذى كَرَمٌ/ لكن على الذُلِ صبراً، كيفَ ياجملُ؟!/ وبيننا وطنٌ تُدمى كرامتهُ/ وكل موضعِ عزٍ فيه يُبتذَلُ. معادلة غير موزونة «الجمل» مفردةٌ اختزلت الكثير من المعاني. الصبر. القدرة على التحمل. الجلادة. لكنهُ يتساءَل كانَ هذا التحمل في عقد التسعينات من القرن الماضي لحفظ الكرامة! أما الآن فكيفَ الصبرُ والكرامة تُمتَهَنُ؟! فالمعادلة غير موزونة (صبرٌعلى الأذى... صبرٌ على الذلِ) الأول يعزُ النفوس، والثاني يذلها ويهينها! وماذا ينتظر الوطن من احتلالٍ بربري همجي؟! ذلٌ وهوان، والمكرماتُ قابعاتٌ في السجون، والأعراض تُنتهَك، والدمُ نزفٌ جارٍ بلا توقف! نلاحظ حرارة التجربة. وتدفق المعاناة. وسهولة اللغة. ومأسوية التصوير عبر حنينه الجارف إلى وطنه المثخن بالجراح، وإلى أحبائه وأهله الذين تبعثر لحمهم بين سكاكين الأعداء. فهَلْ سيتوقف نزيف الروح بعد هذا النزف المدرار؟! وعلى رغم صرخة الأرض المدوية لكن الشاعر لا يجد رد فعل يرقي إلى المستوى المطلوب: دَمٌ مُراقٌ.. وأعراضٌ مهتكةٌ/ وأرضٌ اغتصبوها حيثما نزلوا/ تصيح عذرتُها بالناس: واشرفي/ والناسُ.. لا امرأة فيهم، ولا رجلُ!/ كأنهم كلّهم ماتوا فلا أحدٌ/ إلاّ الطفولة والأحجار تقتتلُ/ الآن صرنا نعاجاً يُستهانُ بها/ وما لهنَّ على دفعِ الأذى قِبَلُ يرتفع أسلوب الخطاب، ويصل إلى حالة اليأس من شعب شيمتهُ الصبرُ على كل ما يجري لهُ من تشريد وتقتيل، وكأنّه يستفز الشعب ويستعجلهُ للقيام بثورة مضادة، ثورة قادرة أن تهزم جيوش الظلام والضلال، وتحطم عوامل القهر والعدوان من أجل أن يعود العراق حرّاً كريماً نظيفاً مما لحقهُ من تشويه وتدنيس ليمارس دورهُ التأريخي والحضاري. رحلَ شاعرنا والروح ما زالت تنزف، والحلم يبحثُ عن غيارى الوطن والأمة ليجسدوا أحلامه وآماله حقيقة على أرض الواقع حتى ترقد الروح في طمأنينة وسلام.