يقول الحق سبحانه وتعالى «ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون»، أكد المفسرون أنه نهر النيل وفروعه المتعددة تجري كلها من تحت قصور فرعون ومن بين يديه ومن تحت قدميه وذلك من باب الفخر والقوى والتمكين، فكأن نهر النيل بفروعه وروافده مصدر عزته وقوته. قال عالم التاريخ اليوناني هيرودوتس قبل الميلاد بخمسمئة عام إن «مصر هبة النيل»، وذلك عند زيارته لمصر ومعايشته لأهلها وتدوينه لما يجري من الأحداث وأحوال الناس مؤرخاً للمشاهد والمواقع والعادات والتقاليد والحضارة القائمة على ضفتيه، وقد وجد المؤرخون مكتوباً على أوراق البردي، تعريفاً للنيل وفضائله وتمجيداً لعطائه كتبها قدماء المصريين: يقول بعضها «السلام لك أيها النيل يا نابع من بطن الأرض آتياً لمصر لتعطيها الحياة»، وقد احتفل قدماء المصريين بعيد أسموه «وفاء النيل»، ويعني أن النيل قد أعطى ما يكفي من مائه لتستمر الحياة ويخضر الوادي ويعم الخير، وهذا الاحتفال ارتبط بأسطورة أجزم بعدم صحتها لا تتوافق مع العقل والمنطق، فهي من تخرصات المؤرخين؛ تقول الخرافة إن «نهر النيل لا يجري إلا إذا أهدى إليه أهل مصر عروساً بكراً يوماً في السنة يلقونها فيه فيبتلعها ثم يجري راضياً»، حتى أبطل سيدنا عمر هذه العادة بأن أمر عمرو بن العاص والي مصر آنذاك أن يلقي ببطاقة إلى نهر النيل مذيلة بتوقيعه يحذره فيها من مغبة فعله هذا، محذرا النهر بأنه لن تكون هناك عروس تهدى إليه وأنه يجري بقضاء الله وقدره. فأبطل عمر هذه العادة وجرى النيل من سنته دون «صبية» تهدى وحتى اليوم. قدس المصريون القدماء النيل ومنحوه صفة الألوهية وسموه «الإله حابي». يقول المؤرخ جمال حمدان إن مصر تجمع بين أمرين الموقع والموضع، فالموقع قلب العالم والموضع هبة النيل، ويصف ابن بطوطة نهر النيل بقوله ونيل مصر يَفضُل أنهار الأرض عذوبة في مذاقه واتساع قطره وعظم منفعته وليس في الأرض نهر يسمى بحراً غيره، لقوله تعالى (فإذا خفت عليه فألقيه في اليم) فسماه الله يماً وهو البحر. ويقول المؤرخ ابن خلدون عن نهر النيل قد مثل بشاطئ بحر النيل نهر الجنة ومدفع مياه السماء يسقيهم النهر والعلل سيحه ويحمل إليهم الثمرات والخيرات ثجّه، وقد خاطب أمير الشعراء أحمد شوقي نهر النيل بقصيدة يقول فيها: من أي عهد في القرى تتدفق، وبأي كف في المدائن تغدق، ومن السماء نزلت أم فجرت، من عليا الجنان جداولا تترقرق؟ وقد عبر الإنسان المصري عن حبه لنهر النيل الخالد لأنه يفيض على الأرضين ويقصد بها «الوجه القبلي والبحري»، فتمتلئ مخازن الحبوب وتزدحم المستودعات وتتوافر حاجات الفقراء، إنه النيل لأبنائه جميع النباتات.. وإذا هو لم يطعم الناس هجر النعيم المساكن وأصيبت الأرض بالاضمحلال، وقد غنى عبدالوهاب رائعته «النهر الخالد»، مردداً بأنه واهب الخلد للزمان وأنه ساقي الحب والأغاني. يقطع النهر رحلة تمتد عبر الكون 6640 كيلو متراً نابعاً من وسط أفريقيا حتى يصب في البحر الأبيض. والسؤال المحير لماذا لا يستفاد من تدفق مياه النيل وجريانه حتى الاسكندرية، مانحاً أراضي مصر خيرات من كل الثمرات حتى يصب في البحر الأبيض المتوسط، فلماذا لا يتم بناء سدود في منطقة رشيد ودمياط نهاية مسار النيل قبل أن يصب في مياه البحر تستفيد منها مصر لاستصلاح الأراضي الصحراوية وتأمن غائلة العطش والجوع. ويبلغ عرض المجرى الرئيسي للنيل 750 متراً، وللنيل ذاتية خاصة أعطته معالم شخصية يتميز بها عن غيره من الأنهار في العالم، فهو يمتد من الجنوب إلى الشمال في استقامة غير عادية من الناحية النسبية في مخالفة لأنهار العالم أجمع والتي تجري من الغرب إلى الشرق، وللنيل رحلة طويلة تمر على مناطق مناخية مختلفة تبدأ بالاستوائي ثم المداري والصحراوي انتهاء بمناخ البحر الأبيض، وكل منطقة تتميز بطبيعتها النباتية والبشرية وتشترك جميعها في رباط واحد هو نهر النيل الذي يتيح لسكان المناطق الحياة بطعامها وشرابها، والنيل كان ملهم ومعلم المصريين صنع الحضارة ومن أجله تعلموا الكتابة والحساب والهندسة وعلم قياس الأرض، فكان النيل ومجراه وفيضانه محل اهتمام المصريين منذ القدم، وقد برزت أزمة بين مصر وإثيوبيا بسبب سد النهضة الذي يؤدي إلى انخفاض منسوب نهر النيل بنسبة 25%. وقد هدد الإخوان في سنة حكمهم بضرب هذا السد بإرهابهم المعهود، وقد أراد الله بمصر وأهلها خيراً فكان الرئيس السيسي الذي ذهب إلى إثيوبيا موقعاً على اتفاقية مبادئ سد النهضة لاستخدام منابع النيل بحيث لا يموت الشعب الإثيوبي ولا تتضرر حضارة مصر التي يعكسها النهر الخالد بتحفه ومتصدرة في صفحتك يا جميل، والأمل في طي صفحة هذا الخلاف باتت أكثر تفاؤلاً برئاسة الدكتور أبي أحمد للحكومة الإثيوبية الجديدة وهو من شعب الأورمو كأول رئيس مسلم لإثيوبيا. * كاتب سعودي