إذا كان يجوز القول فإن حاضر ومستقبل أي نظام حكم في العالم هو حصيلة قراراته، فلا يوجد نظام في العالم حتى الآن لم يتخذ قرارات خاطئة قطعاً؛ لأن النظام السياسي الذي يريد أن لا يخطئ عليه أن يتوقف عن اتخاذ القرار وهذه مسألة مستحيلة. وفي هذا الإطار يعترف الملك الراحل الحسن الثاني ملك المغرب في كتابه (ذاكرة ملك) بأن 60% من قراراته كانت خاطئة وهذا الاعتراف يأتي من ملك عربي عُرف بثقافته الواسعة وحنكته ودرايته العميقة بدروب السياسة ويتوفر له طاقم من أفضل المستشارين المشهود لهم في العلم والخبرة، فكيف تكون الحال مع حكومات أو زعماء في العالم ربما لا يتوفر لهم مستشار واحد، وإن تواجدوا فلربما ليس لهم عمل سوى انتظار آخر الشهر ليقبضوا مرتباتهم ليس إلا. فكيف يكون شكل هذه القرارات مع ندرة توفر الخبرات الاستشارية والمعرفة وحسن التقدير لتوقيت القرارات، وأنا كثيراً ما أذكر للملك الراحل الحسن الثاني إضافة مبدعة إلى التعريف المتداول للسياسة والقائل إنها (فن الممكن) وأضاف لها بأنها كذلك (فن التوقع). حيث إن مهمة السياسي ليس التشبث في الممكن فقط إنما تتعداها إلى القدرة على القراءة الصحيحة للتغيرات المتوقعة انطلاقاً من معرفة المعلومات الدقيقة عن الحاضر والماضي وإدراك طبيعة التفاعلات اليومية للوقائع. ومن هنا ندرك أهمية عنصر مهم في المعادلة التالية وهي أن حيوية النظام تساوي قابلة النظام على اتخاذ القرارات.. وكل قرار له كلفة، بمعنى أن كل قرار يتخذه النظام إزاء قضايا وتحديات معينة يكون لهُ ثمن يدفعهُ من رصيده المادي أو المعنوي.. ومثل قريب على ذلك أن نظام الرئيس الراحل صدام حسين لم يتغير لأن أمريكا والغرب أرادا له ذلك بسبب سياساته وطموحاته وبرامجه التسليحية والعلمية إنما انتهى بسبب اتخاذه لسلسلة من القرارات الخاطئة في المحيط الداخلي أو الخارجي والتي قادته إلى هذه النتيجة الحتمية. ناهيك عن ضعف حساباته للأضرار المتوقعة لحظة اتخاذ هذه القرارات نتيجة للتفرد في اتخاذها أو عدم كفاءة النظم الفرعية المساندة في تنقية المعلومات المتاحة وإصدار التقييم الموضوعي لها وتدني عملية الاحتساب الدقيق لنقاط القوة والضعف في المحيط الإقليمي والدولي استناداً إلى حسابات غير واقعية وخيالية. فجميع الدول تمتاز بعناصر قوة ومثلها نقاط ضعف، فدولة عظمى مثل أمريكا تمتلك أقوى ترسانة عسكرية في العالم احتلت العراق وأسقطت نظامه الوطني بفعل هذه القوة الكاسحة، إلا أنها فشلت بعد مرور سنوات من السيطرة عليه، لضعف خططها لليوم التالي للاحتلال، وكما اعترف بذلك توم فرانك رئيس أركان الجيش الأمريكي بتاريخ 18/5/2005 لشبكة سي إن إن، فشهد العالم كيف أن هذه القوة العسكرية الهائلة لم تقو على مجابهة المقاومة العراقية وحرب العبوات الناسفة في الشوارع والأزقة، وبقيت هذه القوات تنتظر عاماً كاملاً لكي تتمكن من اقتحام مدينة صغيرة مثل (الفلوجة). ومثال آخر فإن الاتحاد السوفيتي السابق امتلك أقوى ترسانة عسكرية في العالم إلا أن نقطة ضعفه القاتلة كانت في عدم توفر رافعة اقتصادية تستطيع أن تستمر في حمل هذه القوة العسكرية ما سارع في انهياره وتفككه.. فالدول التي لا تمتلك القدرة العسكرية أو البشرية ربما تمتلك عنصر المال وهو شديد الأهمية في تكوين ونسج تحالفات وعلاقات مصالح مع قوى كبرى يمكن أن توفر لها مظلة دفاعية، فالعراق القوي عسكرياً في عام 1990 تغلبت عليه الكويت المقتدرة مالياً بتوظيف أرصدتها النقدية المودعة في البنوك الغربية لبناء تحالفات دولية مهمة ووسائل إعلامية ودعائية إضافة إلى عوامل أخرى تمكنت بسببها من إنهاء عملية ضم العراق لها. وفي الحقيقة أنا أريد أن أصل من خلال هذه الأمثلة إلى أن أي نظام قادر على القيام بعملية المعرفة الدقيقة لاستكشاف عناصر قوته المتوفرة له سواء كان ذلك في تشخيص المهارات الدبلوماسية لأشخاصه أو في تأطير وتوظيف مزايا الموقع الجيوسياسي للدولة أو استثمار الوفرة الاقتصادية أو القوة العسكرية أو العمق التاريخي والمخزون الحضاري والثقافي للبلد. وبهذا فالنظام عليه أن يعي بصورة واقعية غير مفرطة في المبالغة إلى المعرفة الدقيقة لعناصر الضعف والوهن في كينونته وتآكل بنيته أو صغر رقعته الجغرافية وندرة موارده البشرية أو في ضعف إمكاناته الدفاعية أو تلاشي تحالفاته الإقليمية والدولية أو محدودية موارده الاقتصادية، ومن خلال عملية المراجعة والاستكشاف يستطيع النظام الذي يمتلك القابلية على الفعل من القدرة على تقوية فعالية عناصر القوة الإيجابية المتاحة له وفي نفس الوقت من الحد من التأثيرات السلبية لنقاط الضعف فيه. * كاتب عراقي [email protected]