لم تعد الجنادرية ذلك المهرجان الترويحي الفلكلوري الثقافي، بل أخذ في حسبانه تداخل الفنون وتعالق الموضوعات، وتقاطع الأفكار الاقتصادية والسياسية والثقافية، واندماج المكونات البشرية مع بعضها، وذوبان الحدود مجازياً، ليغدو تفاعل أكثر من 120 مثقفاً سعودياً مع 96 مثقفاً عربياً وعالمياً أحد توجهات الجنادرية المعرفية لتعزيز أنسنة المشاهد الحياتية للإنسان ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. ولم يغفل المهرجان الوطني للتراث والثقافة رؤية المملكة 2030 القائمة على المبادرات والتكامل بين مكونات المجتمع الإنساني الناهض، فاعتنت بقضايا كبرى لها مساس بالحياة اليومية للشعوب في كل أنحاء المعمورة، وخصصت ندوة كبرى لخطر التطرف على تعايش الأمم، وتفكيك الإرهاب بالنص الشرعي والقوانين الدولية يتحدث فيها شخصية عالمية متمثلة في عضو هيئة كبار العلماء المستشار في الديوان الملكي الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد الذي أكد في كتبه وخطبه وندواته أن الاختلاف سنة من سنن الله الجارية في الخلائق، وباقية حتى قيام الساعة، والحكم فيها والتعامل مع بقائها لا يكون بإلغائها أو تجاهلها، بل يكون بتعزيز قيم التعايش والتسامح وترسيخ قبول حقيقة تعدد وتنوع الأفكار والمعتقدات وحسن إدارة الاختلاف، وعد ابن حميد الإرهاب والعنف والتطرف إحدى أكثر العقبات خطورة بوجه الحوار والتعايش، ويمثل ابن حميد إحدى الشخصيات الاعتبارية في المؤسسات العلمية والشرعية داخل المملكة وخارجها، إذ أصل مبكرا لثقافة الحوار باعتباره أس التعايش بين الأفراد والجماعات والمجتمعات، وسبب التعارف والتلاقي على الخير والمصلحة المشتركة والتعايش السلمي المشترك بين كافة الأجناس البشرية، لافتا إلى أن مبدأ التعايش في الإسلام له تاريخ كبير، إذ كان المسلمون يعيشون مع كافة أتباع الأديان المختلفة، ويمارسون سائر أشكال الحياة العلمية والاجتماعية والعملية. ويشاركه في الندوة الأمين العام للمركز العالمي لمكافحة التطرف الدكتور ناصر البقمي الذي جمع بين الجوانب الأمنية والعلم القانوني والجنائي فهو أستاذ الأنظمة الجنائية وحقوق الإنسان، ما يعزز حضوره في الندوة لتناول دور المملكة في محاربة التطرف وتعزيز التعايش بلغة الأرقام. وتعضّد الندوة الكبرى الثانية عن مصادر التشريع الندوة الأولى، إذ سيسهم وزير الشؤون الإسلامية صالح آل الشيخ في تأصيل منهج المملكة وفق مصادر التشريع الإسلامي الثابتة والمجمع عليها، ويعوّل على الندوة في تفكيك مفاهيم مغلوطة غالبت بعض الناس في تدينهم، وأذكت روح الغلو عند البعض كونهم أنبتوا عن العلماء الأجلاء المعتبرين، ويشاركه الندوة نائبه الدكتور توفيق السديري. وفي ظل ما تتمتع به العلاقات السعودية الهندية من فرادة، تحضر دولة الهند الصديقة ضيف شرف جنادرية 32 في ظل روابط اقتصادية واجتماعية وثقافية تاريخية، واتصالات مكثفة بين الشعبين، وتجارة قوية يعود تاريخها إلى عدة قرون، خصوصاً أنه يقيم في المملكة اليوم أكثر من مليوني مواطن هندي، ويزور المملكة كل عام أكثر من 170 ألف هندي لأداء الحج، وآخرون لأداء العمرة، ما وثّق الصلات وأعلى شأن التفاعلات في ثقافتي البلدين، وخصصت الجنادرية ندوة ثالثة كبرى عن العلاقات السعودية الهندية يتحدث فيها دبلوماسيون ومتخصصون منطلقين من عام 1932 وثناء رئيس الوزراء الهندي حينها (جواهر لال نهرو) على الملك عبدالعزيز مشيداً بتوحيد المملكة، وإشادته بشجاعة المؤسس وحنكته السياسية في توحيد الجزيرة العربية. الفيصل تعد لفتة الجنادرية 32 لتكريم مهندس الدبلوماسية السعودية الراحل الأمير سعود الفيصل إحدى القيم الأصيلة التي اعتنى بها المهرجان لحفظ حقوق الرواد ممن جمعوا بين الأصالة والمعاصرة، ووازنوا بين مصالح الوطن وبين مصالح الشعوب العربية والإسلامية وبين حقوق الشعوب عامة في الخير والأمن والسلام، خصوصاً أن سعود الفيصل أستاذ دبلوماسية بإجماع دولي وعلى مدى عقود طويلة نظر الشرق والغرب إليه باعتباره الوجه الدولي للمملكة، أكمل دراسته عام 1964 في الاقتصاد من جامعة برينستون في الولاياتالمتحدة. وعين في 1970 نائبا لمدير المنظمة العامة للبترول والموارد الطبيعية (بترومين) السابقة المملوكة للدولة، وفي السنة التالية نائبا لوزير البترول والمواد الطبيعية، وعام 1975 استلم حقيبة الخارجية ليكون أحد الأمناء الكبار عليها طيلة 40 عاماً. السديري يأتي تكريم الجنادرية للراحل تركي السديري في سياق تكريم الرواد وتكريم السلطة الرابعة باعتباره من رموزها وممن أداروها بالكاريزما، فإذا كان الصحفي حسنين هيكل ارتبط بالرئيس جمال عبدالناصر، وأنيس منصور بالسادات، والرفاعي بالملك حسين، وعثمان العمير بالملك الحسن الثاني، فعلاقة السديري بالملك سلمان عززت حضور الرياض صحيفة ومدينة وجسرت المسافات بين السلطات. السقاف تعد الدكتورة خيرية السقاف أول مديرة للتحرير في الصحافة المحلية، بدأت منذ 40 عاما كاتبة، ومشرفة على الصفحات النسائية، سيدة من ضوء تجلى في (حروف وأفكار) تكرّم الجنادرية وجهاً مشرقاً للمرأة السعودية على مستوى دورها الإعلامي والأكاديمي والأدبي.