لا تزال السينما تملك سحر الاختراق الناعم.. عيون ترى ما وراء الأفق وما فوق السحاب وما تحمله الأرض وما تخفيه القلوب وما تنشره الزهور.. بالأمس القريب بعث لي صديق بلجيكي تربط بيننا محبة الفكر والروح.. ومن يجرؤ أن يستهين بحب كهذا ! فيلما يحمل ميزات عالية الجودة في سياق محاربة العنف الأعمى والتعايش الإنساني المشترك والحض ضد الكراهية.. تدور فكرة الفيلم الذي لم يستوقفني فيلم قصير مثله منذ فترة طويلة.. حول صداقة ربطت بين اثنين لا يطلبان من الحياة شيئاً سوى الجنة، الأول إمام مسجد قمحي اللون طويل كنخلة وحر كنافذة في قطار.. والآخر قس في إحدى الكنائس في نفس القرية مستدير الوجه متوسط القامة أبيض البشرة بوجه مشرب بالحمرة.. ترتسم على وجهه ابتسامة توحي بالاطمئنان.. كانت العلاقة تمتد بينهما كالنور كلما تقدمت الأيام تزداد ضوءا.. يلتقيان كل يوم على بسمة ويفترقان قبل الفجر بقليل ولا تزال في عيون كل منهما لمعة.. كانت تفاصيل المحبة تتداخل بينهما لتملأ مسام الروح.. وتمر الأيام لتأتي بالليالي.. الليل يسلم النهار والنهار ينام في حضن الليل ليتحول الاثنان من صديقين مقربين إلى أخوين في أرض الله.. ويمرض إمام المسجد، يجتاح جسده السرطان ويداوم القس على زيارته ومساعدته ومرافقته في عيادة الأطباء والمستشفيات ويثابر الإمام رغم انتشار المرض في جسده على رفع الأذان بصوته، مستنداً إلى ذراع القس للوصول إلى المسجد.. بحيث تعود أهالي القرية على هذا المشهد.. ويذهب القس كعادته مساءً لزيارة صديقه ليجده في لحظات رمقه الأخير مستلقياً على أريكة خشبية في فناء المنزل الخارجي.. توجه القس بوجهه للسماء ورفع يده ونظر إلى أعلى فرأى خيوطاً رمادية تتشابك مع تكسرات أضواء الفجر الأولى وكأنها تذكره بقدرة الله على البرق والرعد في أي وقت وأنها على وشك أن تمطر.. والمطر خير.. توجه بعينيه إلى السماء وقال في يأس شديد وبصوت تحشرجت حروفه في الحلق واختلطت بالدمع.. يا رب.. يا رب.. يا ربي ورب صديقي.. يا إله الكون.. يا رب النبات والشجر والريح والمطر.. يا رب محمد وموسى وعيسى وكل الأنبياء.. صديقي كل حياتي.. هو ظهري وسندي وملاذي.. صديقي هو قلبي وعقلي وحياتي فنجه يا رب.. ثم سجد على الأرض يبكي.. سقطت نقطة ماء فوق رأسه فرفع عينيه ليجد السماء ترسل عليه قطرة بعد قطرة كانت تمطر.. رفع رأسه من فوق الأرض ليسمع صوتا واهنا كأنه صدى من بعيد يردد «أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله»، وفي أقل من دقيقة كان صديقه ينام بين ذراعيه ميتاً.. ساد صمت كثيف والصباح يتسلل ببطء.. لم يعد يسمع في فضاء القرية سوى أصوات الريح التي تزوم وحفيف أوراق الشجر الذي يعزف لحناً حزيناً على قيثارة الطبيعة.. مرت لحظات ثقيلة مثل قيظ.. فطن القس إلى اقتراب موعد الأذان فهرع إلى المئذنة ورفع أذان الفجر وكأنه كان يوفي بعهده لصديقه.. أخذ ينتحب بعد ذلك حتى سمعت القرية أنين ضلوعه وتساقط دمعه حين يتساقط الدمع من قلب محب يكون مصدره القلب لا العين.. تقدم الإمام أخذ يتلو «وذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أُنزل على الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع» صدق الله العظيم. [email protected]