لا شيء يحير الفكر، ويجعله يقف واجما عاجزا عن الفهم، كحالات الانتحار التي يقدم عليها بعض الأشخاص كبارا وصغارا على السواء! حب الحياة والتعلق بها غريزة وضعها الله في الأحياء من مخلوقاته، فحب الحياة وكره الموت هو الأصل في طبيعة الإنسان، لكن هؤلاء المهرولين بأقدامهم إلى الموت، يفعلون ما هو عكس الفطرة الأصلية في الكائن الحي! وحين تكون الأمور غامضة لا يستطيع العقل فك رموزها، يتجه الناس غالبا إلى تلفيق أسباب يصوغونها وفق ظنونهم، ليفسروا بها ما عجزت عقولهم عن فهمه، من ذلك ما يردده بعضهم من وجود ارتباط بين الانتحار والنزعة التدينية، وأن المتدين غالبا يتلقى في بيئته أفكارا تبغض إليه الحياة وتزهده فيها، وتجتهد في تزيين الموت وإبرازه طريقا إلى السعادة الدائمة، ما يجعل المتدين يبادر إلى التضحية بالحياة في مقابل الآخرة، ويستشهد بعض الكتاب على ذلك بالمرضى الشديدي التدين، الذين يرفضون الإفطار في شهر رمضان ويصرون على مواصلة الصيام، حتى وإن كان في ذلك تهديد لسلامتهم الصحية. وأولئك الذين يذهبون لأداء الحج رغم بلوغهم سنا متقدمة، تحاصرهم فيها الأمراض وتجعلهم في حالة عجز صحي، ومع ذلك يصرون على تأدية الحج لأنهم يتمنون أن يموتوا خلال أدائه، حتى إن بعضهم يحضرون معهم أكفانهم، يغسلونها بماء زمزم احتفاء بمقدم الموت. وأكثر وضوحا من هؤلاء، فئة الانتحاريين الذين يلتحقون بالمنظمات القتالية ليفجروا أنفسهم، غير مبالين بحياتهم وحياة من حولهم، فهم لا يقتلون أنفسهم فقط وإنما يقتلون الآخرين معهم ويفعلون ذلك بفخر ورضا أنهم قدموا الآخرة على الدنيا! لكن هذا الربط بين الانتحار والتدين، الذي يسعى بعض الكتاب إلى توثيقه، لا شيء يثبته، كل ما هنالك ظنون وتوقعات واستنباطات بنيت على بعض المشاهدات دون أي إثبات علمي، أو مقارنة بما يوجد في العالم من حالات انتحار كثيرة لأشخاص لا علاقة لهم بالتدين على الإطلاق، وبينهم ملحدون لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا بالجنة والنار! علميا تنسب معظم حالات الانتحار إلى الانهيار النفسي، الذي يصيب الفرد أحيانا عندما تشتد عليه وطأة ضغوط الحياة، فيشعر بعجزه عن التعامل معها بكفاءة، كما يحدث أحيانا لبعض الذين يتعرضون لفضيحة، أو إفلاس، أو يصابون بالإدمان على الكحول أو المخدرات، فتصيبهم اضطرابات نفسية حادة تنتهي بهم إلى الهرب من آلامهم بدفنها في غياهب الموت. [email protected]