ليست الصراعات الفكرية بمعزل عن الحراكين الثقافي والاجتماعي، ولا شك أن الذين يتحركون في سبل الحياة ولأجل بنائها يحتاجون للوعي أولاً، ولعل الفئة التي تأتي في شكل المتدينين تشكل جزءاً كبيراً في الصراع وتتسبب في خلقه بالتنافر والتضاد بين الرأي والرأي الآخر، وعلى وجه آخر فالمجتمع ينظر لأصحاب التدين الشكلي بنظره مثالية تعمل على جعل المتدين في العقل الاجتماعي العام فوق الخطأ والتنازع، وتجعل أحكامه وتصوراته صحيحة دائماً، وهذا الانطباع يمنح البعض من المتدينين نرجسية تجعله يتعالى على الناس ويعشق ذاته، ويرى أنه الأفضل، غير أنه يظل أسيراً لما تتطلبه هذه الشخصية، فلا يفكر إلا بالطريقة التي تحفظ الجماهير من حوله. المتدينون كباقي البشر لهم حق الحرمة البشرية التي هي من حق البشر أجمعين، وبذلك ليسوا معصومين ولا منزهين ولا يستحقون القداسة ولو تنازلوا عن هذه المكانة بقولهم، فالناس هم الذين يصنعونها لهم وليسوا هم من يصنعها لأنفسهم، ولكن بعضهم، ومع الأسف، لا يساعد العامة في التحرر من نظرة التقديس لأي شخص يتلبس بالدين، حتى ولو كان في الناس أنفسهم من لا يتمسك بالدين أصلاً إلا أنه يقدس المتدين لأنه يتدين بدلاً منه، فالمتدين هنا عاجز عن جعل الدين قيمة روحانية، تبدأ من القناعة والحرية والممارسة الذاتية لدى الفرد، أي أنه يعجز عن جعلها واقعاً فعلياً في حياة الناس، فهم لا يحملون إلا خطابات إلزامية لا تتعدى كونها وجاهة اجتماعية تقيد الفرد وفق تصورات عاطفية وهزيلة، بينما لا يوجد قدرة على الغالب ببناء القيم النفسية إنسانياً، وأرى بهذا أنهم جعلوا الناس منافقين، فالبعض من الناس يتحدث باسم الدين، ويتقاتل مع المخالفين، بينما لا يطبق أي شيء في أسلوب حياته. يمكن أن نلاحظ كمشكلة ناتجة مع اليقظة الفردية والاجتماعية، أن شريحة من رأي آخر تحررت من نظرية التقديس للمتدينين، فأصبحوا يتصيدون الأخطاء عليهم، وقد ينتحلون شخصياتهم وينشرون بأسمائهم بعض السلوكيات الخاطئة ثم يحجمونها سعياً في سقوط هذه الشخصيات من هيبتها المجتمعية، وأرى في رد الفعل هذا تجاوزاً قد يصل إلى الاعتداء على هؤلاء الأشخاص، ولا أعني هنا النقد، فممارسة النقد كسلوك يعتبر ضرورة من ضروريات الحياة ولا أحد فوق النقد إلا المعصومين منه، ولكن المشكلة الأساسية في أن أخطاء المتدينين تصل للقيم الدينية والروحية الأساسية، ما يخضعها للتمرد السلوكي ويجعلها غير قابلة للتطبيق والممارسة والامتثال، والوصول إلى هذه الدرجة - وقد وصلوا إليها - يشير إلى وضع خطر في مجتمع متدين كمجتمعنا. الصدمة التي وقع فيها الكثير من الجيل الناشئ وحال الضياع التي يعيشونها، والتي تتمحور في سؤالهم الدائم «نصدق من؟!»، يجعل الإجابة عن هذا السؤال مسؤولية وقضية كل من يتحدث في شأن العامة، فلسنا بحاجة للضجيج ولمن يكون صحة الرأي، إنما الناس بحاجة إلى من يساعدهم ليساعدوا أنفسهم، وكما أسلفت فالبناء الاجتماعي يحتاج للوعي وإدراك حاجات الناس، وهذا ما لم يستطع أن يقدمه «الثوب الديني» حتى اليوم، بل ويعجز عن ذلك. الحاجات الإنسانية في أي مجتمع تتميز «بالتعدد والتنوع» غير أنها تتميز «بالتجدد» أيضاً، إضافة إلى كونها نسبية، وهذه المثالية بعيدة عما يتميز به الوجه الثقافي العام لمجتمعنا، فهو لا يقر بفكرة أن يوجد اختلاف، والأكثرية يريد في أسلوب حياته أن يعيش ويفكر ويلبس بما لا يختلف مع غيره، ويلزم غيره على ذلك أيضاً، ولعل المهتمين والمتخصصين الاجتماعيين يجدون طريقة في العمل على إيجاد نظام للتوافق الاجتماعي المتبادل بين الوحدات الاجتماعية باختلافها التي تتمثل في «الفرد والجماعات التي تشكل المجتمع» في ظل أن تكون هذه الحاجة الإنسانية منطلقة من حوائج فردية، وأعني من هذا أن نعمل على تنظيم هذه العلاقات الاجتماعية والحد من الإشكالات التي تبتدئ بها أي جماعة من دون أن يقف أمامها أي رادع. يمكن اعتبار مسألة الاستقرار الاجتماعي مسؤولية نظامية يجب أن تضع القيود لضبطها وللحد من المشكلات التي تعوق تحقيقها، وفي خبر مضى، بحسب ما نشرت «العربية» على موقعها الإلكتروني «طالب الكثير بمن فيهم المعتدلون من علماء الدين بضرورة وضع حد للتجاوزات الأخلاقية التي وصلت للقذف العلني في موقع التواصل الاجتماعي «تويتر»، مؤكدين أن غياب التشريعات الصارمة جعلت البعض يتمادى في ما يكتب»، وبهذا فنحن بحاجة إلى قانون عام يترجم على أرض الواقع ولا يقف عند التجاوزات التي تكتب على «تويتر»، فهناك من يقصي ويشتم في المحاضرات الدينية ومن فوق المنابر، وهناك من يحاول تنظيم السلوكيات الإنسانية بما يخالف الفطرة، كالذي يقول «لا تجلس الفتاة مع أبيها في خلوة»، والتي تقول «لا يمشي الولد الوسيم بجانب أمه فيفتتن بها الناس»، وكل هذه الصراعات تنصب في جدل مستديم حول الرأي الأرجح الذي يتحدث باسم الدين ومن يظن أنه يستطيع وحده أن يرى الحق. بهذا فالمطلب اليوم يكمن في إيجاد تنظيم للعلاقات الاجتماعية بما فيها ضبط الخطاب الديني وضبط الفتوى، فقد أصبح كل متحدث باسم الدين يصوغ رأياً ولو كان غير راجح في صيغة فتوى! غير أننا بحاجة إلى الإقرار بالتعددية في الرأي وفق منهجية محددة، وبهذا يمكن للمجتمع أن يصوغ ذاته من دون نزاع، فلا بأس أن يوجد الاختلاف الذي يحقق التآلف، ولكن سوء الخلق هو ما لا يمكن قبوله.