ولي الدين يكن ولد لأب تركي وأم شركسية في إسطنبول سنة 1873، اسم أبيه حسن سري باشا وأمه هي ابنة بنت أحد أمراء الشراكسة، ربيت في قصر الأمير برهان الدين أفندي أحد أنجال السلطان عبدالمجيد. ويكن – بفتح الياء والكاف وتسكين النون، وتنطق الكاف كما تنطق الجيم القاهرية – تعني باللغة التركية ابن الأخت وابنة الأخت وتلحق هذه التسمية باسم العائلة إذا ما كان مؤسس العائلة ابن أخت السلطان، بوصفه لقبا تشريفيا. وجد ولي الدين هو إبراهيم باشا يكن ابن أخت محمد علي باشا مؤسس مصر الحديثة. وعمه هو محمد محمد فائق بك يكن كان أحد أعضاء مجلس شورى الدولة في تركيا. وكل هذه المعلومات تشير إلى أنه ابن عائلة نبيلة أو أرستقراطية. انتقل أبوه إلى مصر للعيش بها وكان عمره ثلاث سنوات، وتوفي أبوه وكان عمره ست سنوات. فكفله ورعاه عمه علي حيدر باشا يكن، ناظر المالية المصرية وأدخله في مدرسة (الأنجال)، وهي المدرسة التي أسسها محمد توفيق باشا، لتعليم أنجاله بعد أن ضم إليها فريقا من أولاد أمراء مصر ووجهائها. فدرس مع الخديوي عباس في مدرسة واحدة. التحق بمدرسة فرنسية، ثم استكمل دراسته بالمدارس الأميرية. كان يتقن العربية والتركية والفرنسية وملما بالإنجليزية واليونانية. هو شاعر وناثر، وكاتب سياسي، وناقد اجتماعي، ومناضل سياسي، وكان من أعضاء حزب تركيا الفتاة. وهو صحفي، عمل حينا مراسلا وحينا محررا. شارك وهو في عمر صغير مع الصحفي يوسف فتحي بك في إنشاء جريدة (المقياس). عاش في إسطنبول عند عمه الذي تقدم ذكره سنة كاملة. ثم عاد إلى مصر وأنشأ جريدة (الاستقامة). واضطر لإيقاف إصدارها بعد أن منع السلطان عبد الحميد دخولها إلى الولايات العثمانية. قبل أن ينفيه السلطان عبدالحميد الثاني إلى مدينة سيواس، كان قد عمل في النيابة الأهلية وفي المعية السنية (البلاط الملكي) في مصر، وعمل في الجمعية الرسومية الجمركية وبعدها عمل عضوا في مجلس المعارف الأعلى في تركيا. وظل في منفاه سبع سنوات. وحين أرغم السلطان عبدالحميد على إعلان الدستور العثماني سمح له بالعودة إلى الأستانة، ومنها عاد إلى مصر. فعين في وزارة الحقانية. وعينه بعدها السلطان حسين كامل سكرتيرا عربيا في الديوان العالي السلطاني. توفي في حلوان سنة 1921، وكان يستشفي بها من مرض الربو. أدمن الكوكايين قبل وفاته بسنوات. له من الأعمال غير التي مرّ ذكرها في الحلقة الماضية، رواية اجتماعية اسمها (دكران ورائف)، ورسالة قصيرة اسمها (الخافي والبادي من فضائح الصيادي)، كتبها وهو في إسطنبول وبعثها إلى مصر مع أخيه يوسف حمدي يكن، فطبعها أخوه هناك. وأخوه هذا هو الذي جمع قصائده، ونشرها في كتاب اسمه (ديوان ولي الدين يكن) سنة 1924، قدم له الأديب والصحفي أنطون الجميل. ترجم إلى العربية رواية فرنسية لبول بورجيه اسمها (الطلاق)، وترجم من التركية إلى العربية كتاب (خواطر نيازي أو صحيفة من تاريخ الانقلاب العثماني الكبير) للقول أغاسي (أي ضابط مساعد للقائد) أحمد نيازي الرسقه لي. وهو من قادة الانقلاب العثماني سنة 1908. ينفرد ولي الدين يكن بصفة لا نجدها عند أقرانه أدباء النهضة العربية الحديثة، مسلمين ومسيحيين، وهي مناصبته رجال الدين العداء المعلن، واستفزازه المشاعر الدينية وتحديه شعائر الدين. كان يحقر من شأن رجال الدين فهم عنده «عيال الرجال». وينفر من اللحية والملتحين، ويحلو له التفنن في الهزء باللحية وبالملتحين، ويتهكم بالمؤدين لشعائر الدين، كالصيام وذبح الأضاحي والوضوء للصلاة. عداء هذا الرجل للدين كان موجها ومنصبا على رجال الدين في تركيا. فهو لم يتعرض لرجال الدين في مصر بشيء مع أنه عاش معظم حياته في مصر. كذلك الحكايات التي رواها عن نفسه وتضمنت استفزازا للمشاعر الدينية وتحدي شعائر الدين هي حكايات حصلت له في تركيا. أعزو عداءه لرجال الدين الأتراك لسبب سياسي ثوري بالدرجة الأولى فهم موالون للسلطان عبدالحميد من جهة، ومعادون لخصومه من المتحررين من جمعية تركيا الفتاة ومن جمعية الاتحاد والترقي. وهذا ما يمكن استخلاصه من قوله في كتابه (المعلوم والمجهول): «أما رجال الدين وهم عيال الرجال فينبشون منسوخة الأحاديث وغير الصحيح منها فلا يروون للملوك إلا ما كان حثا على طاعتهم مثل قولهم (قلب السلطان بين إصبعي الله يقلبه كيف يشاء)، وقولهم (الملوك ملهمون)، وقولهم (اسمعوا وأطيعوا ولو ولي عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة) كل ذلك يفسدون به أخلاق الملوك تقربا إلى جفانهم واستجداء لحبواتهم». ومن قوله الآخر في الكتاب نفسه وهو يتحدث عن رجال الدين في حضرة السلطان عبدالحميد: «وبين أيديهم جماعة من المشايخ، منهم المدعون لعلوم الكيمياء القديمة، ومنهم أولياء الله الناطقون بالغيب (السرياني). ومنهم المتصوفون من أتباع الرفاعي والكيلاني ومحيي الدين العربي والبكطاشي والمولوي. ومنهم أئمة الشرع ورواة الأحاديث والمفسرون. كل هؤلاء يكفرون الأحرار، ويدعون لعبد الحميد، ويمدون أنامل أكلت أطرافها حبات السبح، يجرون بهم دراهم أعوانه عدا، بُطلا وجشعا ولؤما. «كانوا يؤثرون حب عبدالحميد على حب العادل الحميد». وأما الذي قاده إلى استفزاز المشاعر الدينية وتحدي شعائر الدين، فلربما كان الجانب الإلزامي والإرغامي في تأديتها من قبل السلطة والمجتمع في تركيا في زمنه. فالمفطر في رمضان كان يسجن ولهذا نجده يركز على مفارقات وتناقضات بالحديث عن «المفطرين الذين يدَّعون الصوم ويحسنون تقليد الصائمين، حتى لقد بلغ أمر الكذب أن يضرب المفطر في بيته من يدخن بجانبه سيكارته». في مصر التي عاش فيها أول حياته وقدم منها إلى تركيا، كان أمر تأدية شعائر الدين من الناحية القانونية، متروكا للفرد، فليس هناك جانب إلزامي وإرغامي في تأديتها. يعلق محمد محمد حسين على موقفه من رجال الدين وتحديه لشعائر الدين ناقدا، فيقول: كان بعض دعاة التجديد الذين ينادون باقتفاء الحضارة الغربية يبالغون في الاستخفاف بعلماء الدين، حتى يجرهم ذلك الاستخفاف بالدين نفسه، كالذي تجده في بعض مقالات ولي الدين يكن، حين يجاهر بالإفطار في رمضان، مستخفا بالصائمين، يتهمهم بالنفاق وبالإفطار سرا، أو بضيق الأفق والتضييق على الناس في حريتهم الشخصية. ويسفه ذبح الأضاحي في العيد. ويعلق الناقد الماركسي رئيف خوري على حكاية رواها ولي الدين يكن فيها تحد لشعائر الدين، فيقول: مثل هذا التحدي الذي لا فائدة إصلاحية منه كان ولي الدين يجعل لخصومه سبيلا على نفسه، فيتعرض للتهم التي تباعد بينه وبين الشعب، مع أنه يدافع عن الشعب. أخذ على ولي الدين يكن موالاته لكرومر وتمجيده له وتأييده استعمار بريطانيا لمصر. فمما قاله في تمجيد كرومر: «لا أظن أن رجلا يشفق على بنيه إشفاق اللورد كرومر على بنيه. فهو أبو حريتهم ومصدر إنصافهم ومورد سعدهم إلا أنه كان يخدم من لا يحبونه». «خير ما يقال عن اللورد كرومر أنه كان أبا مشفقا للمصريين وظهيرا كبيرا لأحرار العثمانيين. قدم مصر زمان أشكله أمورها وجمت مخاوفها. فشدَّ أزرها وأنهضها وسط مخاوفها ووقف بها على حد التصافي. فكان لها كالطبيب النطاسي كلما شكت وجعا بادرها بالدواء ما يزيله». قال هذا في الجزء الأول من كتابه (المعلوم والمجهول) الذي صدر في سنة 1909. ويخبرنا في مقدمة الجزء الثاني في هذا الكتاب والذي صدر في سنة 1911، عن ردة الفعل على تمجيده لكرومر، فيقول: «نظر أناس في الجزء الأول من المعلوم والمجهول فرأوا صورة اللورد كرومر وقد كتبت تحتها (مصلح مصر) فألقوا بالكتاب جانبا وأطبقوا جفونهم وولوا عنه هاربين». ثم راح يهزأ بهم فيقول: «راعهم شخص ذلك الرجل الجليل على الورق فأخذتهم سورته ولم تقو عيونهم على النظر في وجهه. فكيف بهم لو تمثلوا بين يديه ورن صوته في آذانهم» ويرد على قولهم بأنه صنيعة لكرومر، بأن كرومر لا علم له بكتابه إلى اليوم الذي أصدر الجزء الثاني منه. ويخبرنا بأنه «هال بعض الجرائد ما في الكتاب فأمسكت الكلام فيه. لم تشأ تقريظه ثقة منها بأن ستشتمها الصحف التي شتمت اللورد كرومر ولم ترد نقده لعلمها منها بأن سأحجُها إذا دعت للنزال. وتراضينا على السكوت». وفي تأييده لاحتلال بريطانيا مصر، كان من ضمن ما كتبه مقال اسمه (المحتلون يخرجون من مصر). المقال قائم على حلم رآه في المنام، صور فيه ما سيحل بمصر من الخراب والدمار. وفي آخر الحلم يروي أن تمثال إبراهيم باشا وثب بجواده في الأرض ووقف أمام قائد الجيش البريطاني، وخطب فيه وفي جيشه خطبة غاضبة ليمنعهم من الخروج من مصر. وما قاله على لسان إبراهيم باشا بلغ الغاية في الغلو والشطط. وممن أخذوا عليه هذا الموقف رئيف خوري في سياق كلام أثنى فيه ولي الدين على الصحفيين المسيحيين اللبنانيين المتمصرين، ثناء عاطرا، يقول رئيف في تعليقه: هذا ثناء مشكور لولي الدين. إلا أنه لا يخلو من غفلة فالحق أن كثيرا ممن يشير إليهم ولي الدين أعماهم مقت الاستبداد الحميدي حتى خدعوا بمظاهر الاستعمار الغربي، ولاسيما البريطاني. كرهوا الأقفاص والقيود من حديد صدئ، ومدحوها مطلية ملمعة بالذهب!!! ويفسر محمد محمد حسين موقف ولي الدين بأن الذين ألجأه إلى الإنجليز بغضه الشديد للسلطان عبدالحميد، وحماية كرومر له مع من حماهم من أعضاء حزب تركيا الفتاة الفارين من عبدالحميد إلى مصر. هذا إلى أنه أحد أعضاء حزب الاتحاد الذي كان يضم متفرنجي الترك. يعد ولي الدين يكن أبرز المشنعين والمشهرين بظلم واستبداد السلطان عبدالحميد باللغة العربية ويعد مصدرا رئيسا لما كتب عن أبي الهدى الصيادي، أقرب رجل دين لقلب وعقل السلطان عبدالحميد. فولي الدين كان يعرفه شخصيا، وعمه كان من أشد أصدقائه. لعل أبذأ هجاء قاله في السلطان عبدالحميد، أقل من سطر ورد ضمن مقاله (جرائد العثمانيين الأحرار بمصر وغيرها) هو: «كريهان يؤذيها طيبان. الجعل يؤذيه ريح الورد وعبد الحميد يؤذيه نسيم الحرية». يجيد ولي الدين التهكم والسخرية، وهو بارع في الوصف والتشبيه. ومن أمثلة ذلك قوله عن أمين جمعية الرسومات الجمركية، حين التقاه أول مرة في مبتدأ عمله فيها: رجل طويل القامة، أسمر اللون... له لحية كالرغوة، ووجه كالصك العتيق. وقوله عن آلبوز بك حمى السلطان عبدالحميد، وجد ابنه الأمير نور الدين أفندي لأمه، الذي التقاه في منفاه بسيواس: رجل جثته أعظم من المحمل المصري أربع مرات، ذو لحية كأنها الأجمة، ووجه كأنه ميدان القتال، وشكل لا يشابه أحد الأشكال الهندسية، لم يركب عربة إلا كسرها إما صاعدا أو نازلا، أكثر علمه باللغة الشركسية، ولا يعلم منها أكثر من اثنتي عشرة كلمة... بلغني أن له زوجتين هما آيتان في حسن الخَلق والخُلق، ما رأيتهما سيدة إلا أحلتهما مكان الإجلال، فكان آلبوز بك كالأكمة تختفي وراءها هاتان الزهرتان. وقوله عن كمال الدين الدمشقي، أحد رجال أبي الهدى الصيادي، والذي بعثه الأخير إلى مصر محملا بالأموال لإنشاء جريدة هناك. قال عنه: كان خليعا ظريفا وسيم المحيا وكأنه مروحة في يدي الحسناء. يحكي في خاتمة الجزء الثاني ممن كتابه (المعلوم والمجهول)، عن شبان وصبية ونسوة أهل سيواس من المسلمين والأرمن. فيقول في ما حكاه عنهم: «كنت أخرج إلى بعض الخلوات مع رفقة لي. محمولين على الدراجات. فيرجمنا الشبان والصغار بالحجارة وكم اضطررنا إلى تهديدهم بالمسدسات ردا لأذاهم فرددناهم وما كدنا. وهم يسمون الدراجة (شيطان عربة سي) أي عربة الشيطان. ولما استمر اعتداءهم وأعيتنا الحيل في اكتفاء شرهم عمد كل منا إلى دراجته فباعها. وكانت السيدات الأوروبيات إذا خرجن للنزهة يصحبن رجالهن وخدمهن لكي يردوا عنهن الأولاد إذا رموهن بالحجارة. وهذه الجرأة تجدها عند المسلمين كما تجدها عند الأرمن. وصبيان الأرمن إذا رأوا سيدة أوروبية صاحوا بها: يا مدام. جيوبك ملؤها الشياطين. وقد يغتفر المرء أمثال ذلك من صبية نقصوا تربية وحرموا علما. ولكن ما يقول المرء، إذ يرى أمهاتهم يمشين محجبات ساحبات فضول مآزرهن، كجماعات الأوز أو كأقطاع الغنم. ولقد يبصرن بسيدة أوروبية أو سائرة بزي الأوروبيات فيسببنها في وجهها ويضحكن من شكلها، هذا جهل لو انقلب علما لأصبحت غربان سيواس فلاسفة. لفت نظري منذ أن اقتنيت ذلك الكتاب ربما في آخر الثمانينات أو في أوائل التسعينات الميلادية، ما أورده في هاتين الحكايتين، وبخاصة تسمية السيكل بعربة الشيطان في الحكاية الأولى. وكنت أعتقد قبلها أن تسمية السيكل بحصان إبليس في نجد هي تسمية محلية وليست عامة. ما فات ولي الدين يكن أن يذكره في سنة 1911، ذكره الباحث سليمان الحديثي في سنة 2017، فقال: «تذكر بعض المراجع أن الدراجة دخلت إلى الدولة العثمانية، وبالتحديد في مدينة القسطنطينية (إسطنبول) أول مرة عام 1855، مع توماس ستيفانوس، ثم انتشرت بعد ذلك في تركيا، وأنهم أطلقوا عليها مسمى سيارة الشيطان. كما تذكر أنه لا بد من امتلاك لوحة أرقام ورخصة الدراجة عند قيادتها في شوارع إسطنبول». ذكر هذه المعلومة في مقال عنوانه (من أين جاء حمار الشيطان وحصان إبليس؟) منشور في جريدة (الاقتصادية). وحمار الشيطان كانت تسميته في الحجاز وحصان إبليس كانت تسميته في نجد. بدأ سليمان مقاله باقتباس مما جاء في مقال كتبه محمد سعيد خوجة سنة 1932 عن الدراجات نعى فيه على العوام تسميتهم كشافة الحرب ب(قمر الجن) وتسميتهم الدراجة (حمار الشيطان)، وتسميتهم الراديو ب(صوت بزورة الجن). ومع تأكيد محمد سعيد خوجة أنه لا يعرف أول بلد أطلقت هذه الأسماء على تلك المدلولات إلا أنه جزم أنها وصلتنا من الخارج وتداولناها. أي إننا – كما قال – مقلدون لا أكثر ولا أقل. وقد أيد الحديثي ما ذهب إليه خوجة في وقت متقدم من أنها تسميات وافدة وذلك بالإتيان بتسميات مشابهة للسيكل في البحرين والعراق وتركيا وايران. أختلف مع باحثنا سليمان الحديثي في تأييده لرأي المرحوم خوجة، فهي على الأغلب أصلية، لأنها تمتح من معين مشترك في تصوراتها العجائبية حول قدرات الجن والشياطين الخارقة. ولأنها كذلك تأتي التسمية عفوية وتلقائية. إن مقال الحديثي على قصره كان شاملا واستقصائيا وحافلا بالمعلومات. وأظن باعث كتابته على هذا المقال الممتاز تلك الملحوظة السديدة التي أزجاها في وسطه وهي: «إن ما حدث لدينا ما هو إلا جزء من سياق منتشر في أنحاء متعددة من العالم. فلا داعي والأمر كذلك إلى جلد الذات أكثر من اللازم، وإلحاق اللوم بمن هم براء منه». إنه يوجد للأسف فينا كرة من المبالغين والمسرفين في جلد الذات المحلية. ومن وجوه جلدها تضخيم بعض الممانعة إزاء السيكل أول ما حل بوادينا، وتحميلها فوق ما تحتمل، وجعلها مسألة كبرى عند الحديث عن أي ممانعة حالية، إذ لا بد أن يكون بدء الخطبة والعظة الليبرالية منها. هؤلاء ينطلقون من روح متزمتة ومن أفق ضيق، ويستحقون للعبث في فكرهم الغث أن نسميهم أصحاب (المسألة السيكلية) أو ( ذوي الاستهلاك السيكلي). إنهم لا يدرون أن الممانعة التقليدية إزاء المخترعات والأفكار الجديدة لها تاريخ طويل وعريض في مجتمعات العالم وأن أهم معلم يميزها أنها تكون مؤقتة. وهي للتسلية والتسرية والطرافة والإضحاك، لا أقل ولا أكثر. وهناك كثير مما يروى في هذا المجال وسآتيكم بواحدة منها لها صلة غير مباشرة بالسلطان عبدالحميد وبمعارضه وكارهه ومبغضه الشرس، الليبرالي القديم ولي الدين يكن. إن الدستور الذي عطله السلطان عبدالحميد حين تولى الحكم، وتسبب بنشأة معارضة عنيفة ضده ومؤمرات متصلة للإطاحة به، وبسببه خلع حين ألغاه بعد سنة من إعلانه. والذي أيضا كافح وناضل وشقي وتعب وعانى وتعرض لشدائد ومحن ومؤامرات، ونكب في حياته لفترة، الليبرالي القديم، ولي الدين يكن، هو أصل عبارتين في بلدان الشام وفي مصر، لا صلة لهما بمعنى الدستور. على أثر إعلان الدستور في آخر سنة من حكم السلطان عبدالحميد، صارت كلمة دستور تستخدم في الموضع الذي تستخدم فيه عبارات من مثل: لا مؤاخذة وعفوا ولطفا، وإذا سمحت وعن إذنك. وهذه العبارات كنا ترجمناها من الفرنسية والإنجليزية إلى العربية. وفي لبنان على وجه التحديد نشأت عبارة هي (لا شور ولا دستور)، وهي تقال في مقام العتب أو التوبيخ، وذلك إذا ما تجاوز شخص على ما هو من ملكية شخص آخر أو على ما هو من صلاحيته ويقع ضمن مسؤوليته. وكلمة (شور) في هذه العبارة نحت عامي لكلمة شورى. ويماثل هذه العبارة عند المصريين في المعنى عبارة (لا إحم ولا دستور). وتستعمل عند المصريين أيضا للذي يدخل إلى مكان أو منزل من دون استئذان. وكلمة (إحم) عند المصريين تشبه في معناها فعل (النحنحة) عندنا. استفاد الجن والشياطين من ذلك الإعلان للدستور، فعند دخول الحمام في بلاد الشام، صار يطلب منهم الإذن بدخوله باستعمال على عتبته كلمة دستور. وفي مصر أعطي الجن والشياطين حقا دستوريا في ملكية المنزل وفي الزعامة على عوامهم، فإذا دخلوا منزلا ليس فيه أحد قالوا: دستورا يا أسيادنا. وأسيادنا المقصود بهم الجن والشياطين. وهذا التلطف والأدب مع الشياطين ورفع مرتبتهم الطبقية سببه الخوف من سطوتهم والخشية من آذاهم. *باحث وكاتب سعودي