يلتحفون السماء، ويفترشون الأرض، والهم على أكتافهم، يدسون أسرارهم في أعماق صدورهم، يعانون في صمت، ويلتزمون السكوت، ضحكاتهم لا تسمع لها صوتا، وابتسامتهم فارقت محياهم، وجوههم شاحبة وحياتهم تبعث عن الأسى والحزن، يجوبون الأزقة والطرقات والأسواق، يرمون أجسادهم فوق قطع من الكرتون أو بقايا فرش مهترئ، يسكنون في المجتمع، لكنهم يرونه بعيدا عنهم. أغلبهم يعاني من اختلال نفسي، ولج عالم التشرد مرغما، وبعضهم أدمن تعاطي المخدرات أضاعته وأضاع نفسه ولم يجد أمامه سوى عيش الحياة والموت على الطرقات. موجودون في جميع دول العالم..لكنهم يختلفون باختلاف مجتمعاتهم، لا يمثلون ظاهرة، لكن المهتمين بعلم الاجتماع والنفس يحذرون من تزايد أعدادهم وينذرون بخطر بلوغها الظاهرة، ويرون أن بقاءهم دون تدخل وتصرفاتهم غير المسؤولة تشكل خطرا على أمن المواطن وسلامته، لذلك يطالبون بالسرعة في التعاطي مع ملف الهائمين في الشوارع وبكل شدة وحزم. الانطلاقة كانت من بوابة باب مكة (وسط جدة) ذات المعلم التاريخي الذي يرتاده العديد من المتسوقين والزائرين والمعتمرين، لكن ذلك المعلم التاريخي تحول إلى مسكن لهؤلاء المشردين الذين تناثروا بأجسادهم هنا وهناك أسفل البوابة التاريخية، فالهروب من النفس ومن الآخرين جمعهم في هذا المكان، والبداية كانت مع عثمان الذي لم يتفوه إلا بجملتين هي أسكن بالقرب من هنا وجئت أتسلى مع هؤلاء. اعترافات مدمن وإذا بصوت يقول «ماذا تريدون منا ألا يكفي أننا نعيش هنا في العراء وأنتم تسكنون البيوت، دعونا في حالنا وانصرفوا ولا تزيدوا همومنا وأوجاعنا أكثر مما تحتمل أنفسنا»، بيد أن ردة الفعل الجافية شجعته للحديث أكثر ويبدو أنه حسبما فسرها أحد المختصين النفسيين كان راغبا في التحدث والبوح عن بعض أسراره. ويوضح أنه ليس متزوجا وليس له ولد أو بنت، بيد أن المارة يطلقون عليه أبو محمد، ويقول في حديثه ل«عكاظ» إنه يسكن في الطريق منذ 20 عاما، «وهذا الفراش مسكني، وهذا المكان جنتي، وتلك الخرابة القريبة هي دورة مياهي (قهوة قديمة وخربة)، رجل عاجز لا أستطيع العمل وليس لي ضمان أقتات منه، كنت موظفا لكني فصلت من عملي ولفظني أهلي وأصبحت مشردا في الشوارع، تجاوزت ال60 ولم أعد أفيد نفسي أو غيري بعد أن دمرني الأصحاب وأنزلوني أسفل السافلين» ويضيف «كنت أمشي رافع الرأس والآن أداري بوجهي، أغروني بالكيف وجعلوني متعاطيا للمخدرات، حاولت أن أهجرها لكنها تمسكت بي ورفضت أن تهجرني، لم أجد أمامي سوى هذا المكان أهرب فيه من نفسي ومن مشكلاتها». وبعد صمت لم يستمر لثوان واصل الحديث قائلاً «أتركني وشأني وأترك هؤلاء لو كان المجتمع حريصا على أحوالنا لما وجدتنا هنا بين الحر والبرد، فكل واحد منا هنا له حكاية»، بعدها التزم الصمت. الطرقات تشي بقصص وحكايات لأشخاص تركوها بعدما توسدوا أرصفتها وسكنوا في مركز للرعاية المجتمعية الخاص برعاية المرضى النفسيين التائهين والمشردين. قصص وحكايات ومن ضمن من يسكن المركز عبدالله شاب تجاوز ال35 من عمره ويحمّل قسوة والده ما وصل إليه من مرض، ويحكي قصته قائلا «بعد أن حصلت على الثانوية أصبت بمرض نفسي وأدخلت المستشفى وبدلا من معاملتي على أنني مريض إلا أن والدي كان قاسيا معي وغادرت مدينتي وواصلت علاجي هنا بالمستشفى وعندما تحسنت، قررت ألا أهيم في الشوارع فسكنت هنا وتوظفت». فيما يرى بندر (40 عاما) الذي يسكن في المركز منذ عامين، أن وحدته دفعته بالعمل في الشارع وسكنه تحت أحد الكباري، مضيفاً «عشت مع جدتي منذ كان عمري ستة أشهر بعد أن طلق أبي أمي التي ماتت وعمري 28 عاما، عشت وحيدا عملت في دفع العربات داخل الحرم المكي، لكني تركته وقدمت إلى جدة وسكنت أسفل الكوبري، أريد البعد عن الآخرين، كنت أستيقظ مبكرا وأجمع الخردة وأبيعها وفي المساء أذهب إلى القهوة أمكث فيها حتى يكل جسمي ويتعب أعود إلى صندقتي التي بنيتها ونمت فيها أكثر من عام، حاولت الذهاب إلى والدي لكنه متزوج ولديه 9 أبناء وأنا وحيد أمي». ويقول «أحضرتني الجمعية إلى هنا رفضت في البداية وبعد يومين حضروا ووافقت، عملت في إحدى مغاسل الفنادق، لكني اختلفت مع المسؤول فتركت العمل، تزوجت وطلقت ولي منها ولدان عمراهما 14 و 16، لا أريد العيش معهما فأنا لا أصلح لهما». سكنت الشوارع أما فؤاد (58 عاما) فقد سرد قصته بالقول «منذ افتتاح المركز وأنا هنا بعد أن كنت أسكن الشوارع، لم أتزوج ولم أفكر فيه، ومنذ طفولتي وجدت نفسي عند جدتي وخالي الذي أعادني إلى أمي وأبي وأنا في ال10 درست في مكة حتى الصف الثالث، بعدها شعرت بتغير المكان ومرضت وطردني والدي إلى الشارع، فيما أبقى إخوتي في البيت ودخلت المستشفى وعمري 17 عاما وأصبحت أتردد عليه، وفي 1405 مات أبي ولحقت به أمي 1423، اشتغلت في النجارة وسكنت الشوارع واتخذت من مكان منزو أمام أحد المساجد مأوى أسكنه، وتسولت لآكل، بعضهم كان يطعمني والآخر يطردني وينهرني، حاولت الحصول على الضمان لكن لم تفلح محاولاتي».أوضح الأمين العام للجنة الوطنية لتعزيز الصحة النفسية الدكتور عبدالحميد الحبيب أن المرضى المشردين والهائمين هم خليط من مدمني مخدرات ومرضى عقليين متسولين وغيرهم، وأن التعاطي مع هذه المشكلة يحتاج لعمل منظم وشامل بإنشاء مؤسسة وطنية للخدمات النفسية المجتمعية تتولى التخطيط والتنسيق للتعامل مع هذه الظاهرة، مضيفاً «وليس اجتهادات أفراد أو قطاع، لافتا أن إدمان المخدرات هي قضيه أمنية واجتماعية ولعدم فعالية برامج الوقاية والعلاج ومنع الانتكاسة قد ينتج عنه نوع من أنواع التشرد». الاستفادة من المعونات من جهته، أكد مدير عام فرع وزارة العمل والتنمية الاجتماعية بمنطقة مكةالمكرمة عبدالله العليان ل«عكاظ» أن عملهم ضمن لجنة شكلتها الإمارة لدرس كل حالة واتخاذ ما يلزم حيالها، مضيفاً «وجميع الحالات النفسية تستحق الحصول على مساعدة ضمانية إضافة إلى استفادتها من حزم الدعم الأخرى المخصصة لمستفيدي الضمان كل بحسب حالته، فضلا عن استفادتها من الإعانات الرعائية الأخرى والمخصصة لذوي الإعاقة ومن في حكمهم وتصرف لمن كان كامل الأهلية ومن كان خلاف ذلك تصرف لأحد ذويه الصادر له صك إعالة». خصخصة الدور إدارة التواصل والعلاقات في وزارة الصحة، أوضحت في رد على أسئلة بعثتها «عكاظ» أن من تستدعي حالته التنويم يتم تنويمه، و«خلاف ذلك وحفاظا على المريض، وحتى لا يفقد ثقته في نفسه، ولا يفقد مهارة التواصل مع الآخرين، يعطى العلاجات اللازمة، ويبقى داخل أسرته يمارس حياته الطبيعية في المجتمع والعمل ويزوره الفريق النفسي لمتابعة حالته وإعطائه الأدوية اللازمة»، لافتة إلى أن دور نقاهة الأمراض النفسية مخصصة للمرضى النفسيين المزمنين الملفوظين من أسرهم أو من لا عائل له، «افتتحت داران لناقهي الأمراض النفسية بالمدينة المنورة ومنطقة عسير، وتسعى الوزارة لخصخصتهما». مركز أجواد وظف 7 وفشل في علاج 3 حالات تحتضن عروس البحر الأحمر مركز أجواد للرعاية الاجتماعية الذي يعد مأوى لأصحاب الظروف النفسية «الملفوظة من أهلها»، ويوضح مدير المركز فؤاد القرني ل «عكاظ» أن المركز هو الأكبر بعد مركز العاصمة الرياض، وأنه دخل حيز الخدمة منذ عامين. ويقول القرني إن المركز بات مأوى لكل من يرغب من الذكور السكن فيه من أصحاب الظروف النفسية الملفوظة من أهلها، والتي تعاني من أمراض نفسية إما وراثية أو ناشئة من الصغر، مضيفاً «تقدم لهم الخدمات الطبية والنفسية، فيما ترسل الحالات العدائية إلى الصحة النفسية والمدمنة إلى مستشفى الأمل، سعته 24 سريرا، وحاليا فيه 18 شخصا، وخلال العامين الماضيين استفادت منه 54 حالة، منها 27 حالة عادت إلى أسرتها، فيما انتكست ثلاث حالات وعادت إلينا، وظفنا ثماني حالات واستخرجنا سبع هويات وطنية وسجلنا أربعة أشخاص في الضمان». وجميع الحالات أدخلت المركز بواسطة فريق الوصول المكون من أخصائي اجتماعي وممرض يجوبان الشوارع في جولات ميدانية بلغت العامين الماضيين 608 جولات، شملت الحدائق العامة، الأسواق، المساجد الكبيرة، أسفل كوبري الميناء، الوزيرية، الجامعة، الروابي، منطقة البلد، القريات، السبيل، المحجر، الثعالبة، الهنداوية، كيلو6 بطريق مكة القديم، محطة النقل بمنطقة البلد، أسفل كوبري الستين، الرويس، وكانت أغلب الحالات في هذه المناطق مصابة بمرض الفصام، فيما أظهر حي البغدادية وأسفل كوبري الستين وبالقرب من مسجد محطة الرحيلي طريق مكة أن أغلب الحالات كانت من الحالات المدمنة على تعاطي المخدرات، أغلب الأسباب التي يدعونها وأنها السبب في مأساتهم غير منطقية وخيالية تجاه الوالدين بضربهم وتربيطهم وطردهم إلى الشارع وبعضها قريب من الحقيقة وهؤلاء هم الآباء الذين يغلقون هواتفهم ويغيرونها حال التواصل معهم، خوفا من المسؤولية. إمارة مكة تتدخل مدير الصحة النفسية بجدة الدكتور نواف الحارثي، يوضح أن الهائم إذا كان مريضا نفسيا فهو فاقد للأهلية ووجب علاجه في المستشفيات النفسية، مشيراً إلى أنه لو كان متعاطيا للمخدرات وجب علاجه في مستشفيات الأمل. ويضيف: لكن الحديث هنا عن شخص هائم في الشوارع وملفوظ من أهله ورافض للدعم من المؤسسات الاجتماعية، وقد استشعرت إمارة منطقة مكةالمكرمة هذه المشكلة، وقبل ستة أشهر شكلت لجنة برئاستي ضمت الشرطة والإمارة والصحة والعمل والشؤون الاجتماعية، نفذنا بعض الجولات الميدانية في مختلف محافظة جدة، ووقفنا على بعض الحالات وجدنا أعمارها تتراوح بين 30-50 عاما، بعضها يعاني من مرض نفسي ومع مرور الوقت وتدخل بعض الظروف تحول إلى مدمن للمخدرات وأصبح مريضا نفسيا ومتعاطيا للمخدرات، وبعض الحالات فقدت الأهلية فاستغلها المروجون في ترويج مخدراتهم، ورفعنا توصياتنا إلى مقام الإمارة بذلك.