فى خضم هذه الأزمة التى ضربت أطنابها العالم وجعلت البشر يعيشون حالة من الذهول والترقب ويتطلعون إلى الأفق البعيد مشفقين عن ما تحمله الأيام القادمة. كيف كنا نعيش من زمان أجد نفسي من أجل أن أكون منصفا وأمينا مع كل مواطن أن أطرح تجربة عشتها منذ السبعينات الهجرية.. كنت صبيا في مدينة رابغ وأذكر كيف كانت تعانقني وأنا ألبس (كمرا) أي حزام دسست فيه نصف قرش.. كنت حفيا بهذا المبلغ أخرج من الحصة لأبدله من الجيب اليمين إلى الجيب اليسار وأتمم على وجوده خشية الضياع.. وكانت الحياة قاسية ومرة.. وانتقل والدي يرحمه الله سعيا وراء طلب الرزق إلى جدة بعد أن مارس حظه مع التجارة والارتزاق منها. عندما كان القرش له قيمة لقد التحق والدي بوظيفة الثكنة العسكرية في جدة.. وكنت وأخي كامل يرحمه الله نذهب على الأقدام مشيا في الصباح الباكر من الكندرة إلى العلوي حيث المدرسة المنصورية والعمالقة الشيخ حسن أبو الحمايل وعلي سرور وبكر إدريس ونخبة محترمة فاضلة.. كان والدي يرحمه الله يصرف لي ثلاثة قروش ولأخي كامل قرشين وكانت الفترة الدراسية على مرحلتين صباحية ومسائية.. الأمر الذي يجعلنا نتناول طعام الغداء من السوق.. وكان بائع الشربة والكرشة بجانب الشلبي العطار المشهور.. وكانت الخمسة القروش تكفي لغدائنا شربة وقرص عيش.. وبعد يومين نشكل قرصا صامولي وحلاوة شامي.. ونحمد الله على هذا.. وكانت الكهرباء شيئا لا نعرفه إلا في سوق الندى شارع قابل وكان التعامل بحساب اللمبة.. أما نحن ومن على شاكلتنا فكانت الفوانيس ثم الأتاريك.. حتى يسر الله للوالد أن نقل إلى الطائف.. وكان الجفالية يرحمهم الله أول من بدأ بإضاءة الكهرباء في مدينة الطائف على سبيل التجربة ثم تعميمها. في الطائف تحول الحال إلى نمو في دخل الوالد.. أذكر على سبيل الدلالة أن راتب الوالد كان 280 ريالا ثم بلغ 360 ريالا.. وكان القرش عملة لها قيمة إذ تأخذ الفول بالقروش والعيش والتميز.. وكانت اللحمة والخضار بالريال.. وكان الطائف مرتعا للربيع رغم الكثافة من المصطافين إلا أن الفاكهة كانت خيرا وكانت ترفا عند المواطنين يستشعرون معه لذة الحياة وطيب العيش وهذه ميزة للطائف.. ولما أن الطائف ليس فيه قسم أدبي.. كنت وقتها في مدرسة الملك فيصل النموذجية في الطائف.. وكان محمد فدا يرحمه الله مديرها وقد بذل جهده من أجل أن يفتح القسم الأدبي ولكن الزميلين الدكتور كمال جلال داغستاني وحسن أسطى لم يقنعهما فالتحقا بالقسم العلمي.. فاعتذر مني المربي الكبير الأستاذ فدا.. ونزلت إلى جدة للالتحاق بالمدرسة النموذجية بجدة (السبع قصور) وكان مدير المدرسة الشيخ عبدالله محمد آل الشيخ وكان نعم الرجل وكان مدير التعليم الأستاذ عبدالله بوقس يرحمه الله.. وفي جدة كانت الدولة تصرف 150 ريالا للطالب المغترب.. وكانت الحياة مطمئنة رغم الفاقة والمعاناة إذ على سبيل المثال كل يوم خميس أذهب من جدة إلى مكة ومن مكة أركب (الابلكاش) مع طريق سيل الشرائع.. البهيتة.. السيل الصغير والسيل الكبير الطائف عبر طرق شاقة وغبار ورمل وجبال ومع ذلك بمجرد الوصول إلى الطائف أنسى التعب.. وفي أقل من 24 ساعة أعاود المشوار كرة ثانية إلى مكة ومنها إلى جدة.. هذه الصور المعيشية أسوقها فقط لمن أترفتهم الحياة وعاشوا مدللين يرفلون في أحضان النعم حتى إنهم لا ينصتون ولا يسمعون لعقلاء الأمة الذين كانوا ينذرونهم من تقلبات الحياة ومن يومهم هذا وإن دوام الحال من المحال.. ومع ذلك كنا نعيش فى منتهى السعادة وكنا معشر الأصدقاء نعيش في بحبوحة.. لا نفكر في الغد ولا نتابع البورصة ولا سعر الدولار وإنما كنا نمارس الرضا والقناعة بما قسم الله. ليس بالبترول وحده تحيا الشعوب وعشنا تفجر الخير والعطاء وجري النهر الأسود.. كانت الأرض كما عهدناها سخية وكانت قفزة تلتها قفزات حتى أصبحنا بين عشية وضحاها نمتلك الطائرات الخاصة والسيارات الفارهة ونمارس السياحة في أرقى دول السياحة وكان الخير عميما وكنا نضرب صفحا ولا نلقي بالا بما يقوله العقلاء.. اتقوا الله واشكروه.. فزوال النعم شيء خطير وقد قالها الملك فيصل يرحمه الله.. كان ذلك العبقري الرجل المؤمن الذي مات في سبيل الله كان يقول لأمريكا ولكسينجر وزير الخارجية إننا قريبو عهد بحياتنا الفطرية بالخيام وبالجمال فلا يهم أن نفقد البترول شرط ألا نفقد إيماننا بالله فهو ثروتنا الدائمة وهو اليقين الذي يجب أن يعمر قلب كل مؤمن (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك). أسوق هذا لعل من يقرأه يعتبر وأيضا يؤكد أن دوام الحال من المحال ولعلها سحابة صيف سرعان ما تنقشع بحول الله وقوته.. وحسبي الله ونعم الوكيل.