من المؤسف أن يتجاهل الإعلام أسطورة في مجال التمثيل الصوتي والتقليد الذي لن يتكرر، حتى بات بعيداً عن الأضواء ولا يتذكره الجيل الجديد، بل لم تعد إبداعاته الكثيرة في حقبة الستينات مادة متداولة في الإعلام، ناهيك عن تجاهل المسؤولين له بحسب قوله. ففي لقاء معه في صحيفة الحياة (23/1/2016) أعرب الرجل عن ألمه واستهجانه من الطريقة التي قابله بها رئيس هيئة الإذاعة والتلفزيون السابق عبدالرحمن الهزاع في مكتبه قائلا: «إنني لم أجد التقدير الذي يوازي مسيرتي الفنية الطويلة، والحافلة بالتمثيليات الاجتماعية». كاتب هذه السطور وأقرانه كانوا من المحظوظين، لأننا عشنا في الزمن الذي سطع فيه نجم هذا الفنان الموهوب، حينما كانت الإذاعة وحدها هي الوسيلة الوحيدة للتسلية والفكاهة. فقد ملأ الرجل دنيانا بالضحك والقهقهة إلى درجة أن الواحد منا كان يستمع إلى نتاجه المرة تلو المرة دون أن يمل أو يتوقف عن الضحك. الانتقال إلى العاصمة الحديث هنا هو عن الممثل والمعلق والمقلد السعودي القدير عبدالعزيز عبدالرحمن الهزاع الحمراني الثبيتي الشهير ب«عبدالعزيز الهزاع» (أبو سامي) المولود بمدينة عنيزة في 6 سبتمبر 1937، الذي انتقل إلى الرياض بسبب ظروف عمله، حيث عمل أولا في وزارة المالية وكان ذلك في عام 1950، ثم انتقل إلى وزارة المعارف للعمل في سلك التدريس ما بين عامي 1951 و1957، فإلى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية اعتبارا من عام 1962 التي ظل يعمل بها حتى تعديل وظيفته ونقله إلى الرئاسة العامة لرعاية الشباب التي تدرج في وظائفها التالية: رئيس قسم البحوث، مدير ملعب، أخصائي تدريب، أخصائي فنون شعبية، ومدير الفنون المسرحية. وهو كما قال لصحيفة الحياة (مصدر سابق) صاحب مسيرة طويلة وحافلة استمرت لنصف قرن سجل خلالها في إذاعتي جدةوالرياض آلاف الحلقات الاجتماعية والفكاهية الهادفة دون إسفاف أو ابتذال، ووفق لون جديد لم يسبقه إليه أحد آنذاك، حيث كان يقوم «بتمثيل وتقليد 15 شخصية مختلفة في مشهد تمثيلي واحد، دون حدوث أي خطأ أو تداخل يشتت تركيز وانتباه المتلقي»، وهذا ما كان يصعب على الآخرين القيام به فبقي في الساحة دون منافس يذكر. بداياته الفنية في «المونو دراما» تعود إلى الأربعينات، لكن انطلاقته الفعلية كانت في الخمسينات والستينات من خلال الإذاعة السعودية، إذ قدم أعمالا كثيرة كتبها بنفسه ثم مثلها، مستخدما فيها موهبته الفذة والنادرة في تقليد أصوات البشر والدواب والآلات والمركبات، فوُصف ب«جماعة في واحد». بدوي في الطيارة وعلى الرغم من تنوع أعماله وتعددها إلا أن العمل الذي انطبع في ذاكرة جيل بأكمله هو تمثيلية إذاعية بعنوان «بدوي في الطيارة» التي أدى فيها أدوار البدوي حديجان، وأمه العجوز، وزميله مريبض، إضافة إلى أدوار موظف الجوازات وسائق التاكسي ونادل المطعم ومضيفة الطائرة وغيرها عبر تغيير صوته ولهجته بما يتناسب مع المشهد. وبعد نجاح تمثيليته هذه وانتشارها في دول الخليج بسبب تكرار إذاعتها، ولا سيما من إذاعة البحرين، أقدم الهزاع على تجربة أخرى كان عمادها أيضا إضحاك الجمهور من خلال التفنن في تقليد لهجات متحاورين، كل منهما لا يجيد لهجة الآخر فيفسره تفسيرا خاطئا. التجربة الثانية، التي لم تنتشر كثيرا مثل تجربة «بدوي في الطيارة»، كان مكان أحداثها داخل القطار الرابط ما بين الرياض والدمام مرورا بالأحساء، وأبطالها مسافرون بدو وحضر من المنطقتين الشرقية والوسطى (الأحساء ونجد). توالت أعمال الهزاع بعد ذلك فقدم تمثيليات مثل: «يوميات أم حديجان»، «وسع صدرك»، «المسامح كريم»، «العاقل خصيم نفسه»، «طريق المحبة»، وغيرها من الأعمال التي تناولت مشاكل المجتمع كالبطالة والفقر والعنوسة والاستغلال، ثم قام بتسجيل معظم أعماله في التلفزيون بعد انطلاق البث التلفزيوني الرسمي من الرياض. ابن باز لقّبه ب«جماعة في رجل» لم يكن مستمعو الهزاع من العامة فحسب وإنما أيضا من النخبة. إذ يُذكر أن مفتي السعودية السابق الشيخ عبدالعزيز بن باز أطلق عليه لقب «جماعة في رجل»، ناهيك عن أن موهبته الفنية كانت محل مباركة من الشيخين عبدالله المنيع وعبدالله المطلق، كما أن الرئيس العام السابق لرعاية الشباب والرياضة الأمير فيصل بن فهد كان من بين متابعيه بدليل أنه كرمه في 1987 عند تقاعده من عمله كمدير للفنون المسرحية في الرئاسة العامة لرعاية الشباب، طبقا لصحيفة سبق الإلكترونية (28/5/2014). استقبال الملك سلمان ومن الذين تابعوا مسيرته وأحبوا أعماله خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز الذي استقبل الهزاع في قصر اليمامة ضمن كبار المثقفين والكتاب ورؤساء تحرير الصحف المحلية في شهر رمضان (أكتوبر) عام 2015، فكان أن ضحك الملك والحضور (كما في الصورة). وتعليقا على هذه الواقعة ذكر الهزاع أن الملك سلمان يعرفه جيدا من أيام توليه إمارة الرياض، وأنه بادر الملك بالسلام عليه بطريقة وصوت «أم حديجان»، قائلا: «السلام عليكم يا طويل العمر، كيف حالك، عساك بخير». إلى ذلك، كان الملك سعود بن عبدالعزيز رحمه الله من المعجبين به والمشجعين له منذ أن مثل أمامه تمثيلية «بدوي في الطيارة» خلال زيارته للمنطقة الشرقية في الخمسينات، حيث أعجب بموهبته ومنحه مكافأة كبيرة (بأسعار ذلك الزمن) قدرها ألف ريال من الفضة، وطلب أن تُسجل التمثيلية على شريط ليأخذه معه إلى قصره ويفاجئ به عائلته وضيوفه. بدّد البؤس بالعمل.. وانفتاحه على الآخرين نمّى موهبته على أن حياة الهزاع أخذت منعطفا آخر بعد أن تبناه تاجر فاضل من أهالي عنيزة هو «عبدالعزيز الكغيل» الذي ألحقه بأحد الكتاتيب وجعله يخدم في بيته إلى أن بلغ سن الثانية عشرة، وهو السن الذي كان لا يسمح فيه للفتى أن يعمل داخل البيوت ويختلط بنسائها. وهكذا انتقل الهزاع من العمل «صبيا» عند التاجر الكغيل إلى عامل في مزرعته، قبل أن يترك العمل في تلك المزرعة ويتجه لمزاولة عدد من المهن في أماكن متفرقة. فقد عمل طباخا وخادما عند إحدى الأسر القصيمية، وعسكريا في الجيش الكويتي، وجنديا في الحرس الملكي زمن الملك عبدالعزيز، وحمالا عند أحد تجار الجبيل، و«فرّاشا» في سكن عمال شركة أرامكو برأس تنورة. ومما لا شك فيه أن تنقلاته هذه واختلاطه بأناس من مختلف الطبقات وينتمون إلى مختلف المناطق السعودية لعبت دورا في إجادته سائر اللهجات المحلية المتداولة والنجاح في تقليدها. والمعروف أن الهزاع تعاون مع وزارة الإعلام الكويتية خلال سنوات إقامته في الكويت وعمله بالجيش الكويتي، وأنجز عددا من البرامج لإذاعة الكويت مثل: «البدوي والدكتور»، «أبو كرشة في الورشة»، «جولة الميكرفون»، «اللصوص وصاحب الدماء». كما قدم من على خشبة مسرح الأندلس في العاصمة الكويتية بعض تمثيلياته الفكاهية الجميلة، لكن الأجمل كان تفاعل الجمهور معها وتمسكهم ببقاء الهزاع واعتراضهم على إسدال الستارة. وصف الهزاع مرحلته الكويتية في حديثه لصحيفة الشرق الأوسط (مصدر سابق) بالمريحة قائلا: «كانت حياتي هادئة وممتعة في الكويت، حيث كنت أقيم في ضيافة المنصور والعبدلي في بيت خصصاه للضيوف القادمين من السعودية». غير أن حادثة وقعت له هناك عكرت صفو حياته. وملخص القصة أن الوكيل التجاري للحكومة السعودية في الكويت جاء ذات ليلة إلى مقر إقامته وبصحبته رجل مدني وعسكر فألقوا القبض عليه واقتادوه مكبلا إلى السجن دون أن يخبروه بسبب اعتقاله. فبقي في المعتقل الكويتي 10 أيام ثم نُقل مخفورا إلى سجن المصمك بالرياض لمدة 75 يوما. لاحقا تبين للهزاع أن القضية مجرد تشابه في الأوصاف بينه وبين مقاول قام بعملية نصب على سكان الرياض من خلال شركته التي ادعت قيامها بمشروع مد خط حديدي ما بين المنطقة الشرقية والحجاز، وطالبت الناس بالمساهمة من خلال تسجيل سياراتهم باسم الشركة ودفع رسوم قدرها 3000 ريال. هذا قبل أن يختفي المقاول النصاب عن الأنظار مع الأموال التي جمعها، ويتم تعميم أوصافه وملاحقته. ولأن الهزاع كان يشبهه كثيرا ومقيما خارج السعودية، ظن البعض أنه استولى على الأموال وهرب بها إلى الكويت. لكن كيف خرج الهزاع من هذا المأزق؟ يجيب بنفسه على السؤال قائلا: «في أحد الأيام ذهب مدير شرطة الرياض إلى الأمير سلمان وسأله عن الإجراءات التي يمكن اتخاذها بالمقاول المخادع الذي أكل حقوق الناس، فطلب الأمير أن يُعرض عليه، ولما مثلتُ أمامه مكبلا بالحديد حدق في ملامحي قليلا ثم سألني: أظن أني رأيتك قبل اليوم، فأجبت نعم يا سيدي، أنا عبدالعزيز الهزاع الممثل الشعبي الذي تعرفه، وبعدها تم إخلاء سبيلي». من المفارقات الطريفة في مسيرة الهزاع تلك التي أتى على ذكرها عبدالرحمن الناصر في صحيفة الرياض (7/11/2008) ومفادها أنه كان يؤدي مشهدا تمثيليا بصوت امرأة لزملائه المدرسين حينما كان يعمل مدرسا لمادة التوحيد، فإذا برجال الحسبة يقتحمون غرفة المدرسين اعتقادا منهم باختلاء المدرسين مع امرأة في خلوة غير شرعية! وأخيرا فإن للهزاع من الأبناء تسعة (خمسة ذكور وأربع إناث)، بعضهم يؤيده في عمله الفني والبعض الآخر يعارضه، لكن الرجل «مطنشهم» بحسب تعبيره، ويصر على التمسك بموهبته مكررا مقولة «الفن لا يموت». شهرة تخطت حدود المملكة إلى مسامع العرب الحقيقة أن شهرة الهزاع تخطت حدود السعودية وبلدان الخليج ووصلت إلى البلاد العربية السباقة إلى فنون التمثيل والمسرح والسينما مثل مصر والعراق. ففي مقال ولقاء مطول كتبه عنه بدر الخريف في صحيفة الشرق الأوسط (15/8/2010) ورد ما مفاده أن الهزاع قدم تمثيلية «بدوي في الطيارة» من وراء الستار ضمن فقرات حفلة تخريج دفعة من الضباط من كلية الملك عبدالعزيز الحربية بالرياض في الخمسينات، وكان من بين ضيوف الحفل ملك العراق فيصل الثاني وخاله وولي عهده الأمير عبدالإله، فلما علم الضيفان العراقيان أن تلك التمثيلية من أداء فرد واحد لم يصدقا وطلبا شريطا مسجلا لها لأخذه إلى العراق. ولما سمع أفراد الأسرة العراقية المالكة وضيوفها الشريط في بغداد لم يصدقوا أيضا أن التمثيلية من أداء شخص واحد، ولكي يثبت لهم ذلك، طلب الملك فيصل الثاني من أخيه الملك سعود أن يأذن للهزاع بالقدوم إلى بغداد ليؤدي تمثيلية «بدوي في الطيارة أمام الأسرة المالكة في قصري "الرحاب" و"الزهور"، بل أرسل طائرة خاصة إلى الرياض لنقل الهزاع. في العراق، وكذا في الخليج، راحت الإذاعة تذيع تمثيليات الهزاع المسجلة فأصبحت متاحة لمن يريد إعادة تسجيلها على أسطوانات للبيع من أجل الكسب. وكان من بين هؤلاء المطرب العماني "سالم راشد الصوري" صاحب تسجيلات سالم فون بالمنامة الذي حقق أرباحا طائلة من وراء هذه العملية بلغت نحو مئة ألف روبية طبقا لما كتبه عبدالرحمن الناصر في صحيفة الرياض (6/6/2016). وفي مصر حقق الهزاع أيضا شهرة تناقلت أخبارها الصحف. فقد عُرف الرجل بضعف نظره بدليل ارتدائه لنظارة غامقة اللون ظلت تميزه عن بقية فناني زمنه. وفي إحدى المرات سافر إلى مصر طلبا للعلاج، وهناك قدر له المشاركة في برنامج "نجوم الغد"، حيث قلد أصوات ولهجات مفهومة عند الجمهور المصري بنبرات مختلفة، الأمر الذي أثار انتباه المسؤولين والجمهور وكذلك الصحافة المصرية التي أفردت بعض المساحات للكتابة عنه وعن موهبته الفذة، خصوصا بعد أن حصد الجوائز وتفوق على كل المشاركين في البرنامج المذكور. وفي لقاء أجرته معه شبكة أبو نواف الإلكترونية، تحسر الهزاع على عدم إجادته اللغات الأجنبية التي لو كان يمتلك نواصيها لانطلق إلى العالمية وقدم أعمالا تنافس أعمال تشارلي تشابلن. حياة الهزاع مليئة بصور الحزن والمعاناة والتنقل. فقد رحلت أمه وهو في الثالثة، وبعد خمس سنوات من رحيل أمه لحق بها أبوه فصار يتيم الأبوين وهو في الثامنة من عمره، فلم يجد أمامه سوى ترك عنيزة، حيث البراري والمراعي التي كان يطوف بها مع والده، والانتقال إلى الرياض من أجل الالتحاق بدار الأيتام.