شاعر إماراتي قد لا يعرفه الكثيرون خارج وطنه، لكنه في الإمارات يُصنف واحدا من أبرز شعرائها الشعبيين ممن كتبوا القصائد النبطية التي تغنى بها عدد من أشهر مطربي البلاد الشعبيين مثل: علي بن روغة، ميحد حمد، حارب حسن، ومحمد سهيل، وغيرهم، فكان ذلك من عوامل حفظ تراثه الشعري من الضياع. اخترنا الكتابة عنه لأنه يجسد صورة من صور معاناة جيل بأكمله من أبناء وطنه ممن عاصروا ظروف الإمارات الصعبة قبل الاستقلال، يوم كان مواطنوها في فقر جعلهم يرحلون إلى دول الخليج المجاورة بحثا عن الرزق الحلال، أو يركبون أهوال البحر من أجل صيد اللؤلؤ ثم السفر إلى الهند لبيعه في أسواق «بومباي». ومن ناحية ثانية، تجسد حياته حالة أبناء الإمارات المخضرمين الذين عاصروا الحقبتين؛ حقبة البدايات المتواضعة، وحقبة النهضة التالية، فكانوا شهودا على كل المنعطفات والأحداث السارة منها وغير السارة. ومن ناحية ثالثة فإن تنقلات الشاعر شاهدة على زمن كانت فيه حدود بلدان الخليج مفتوحة أمام كل مواطنيها للإقامة والعمل، دون اشتراطات أو قيود بيروقراطية. والحقيقة أن سيرة الشاعر الشعبي الإماراتي سالم بن محمد الجمري طافحة بصور المعاناة والقلق، والمغامرة والانتقال من بلد إلى آخر، ومن مهنة إلى أخرى، الأمر الذي انعكس في نتاجه الشعري المبكر. أما تفاصيل نتاجه وسيرته ورحلته الشاقة في الحياة فنجدها مفصلة في كتاب «سالم الجمري.. حياته وقراءة في قصائده» من تأليف سلطان العميمي. وقد صدرت طبعته الأولى في عام 1999، ثم توالت طبعاته منذ ذلك التاريخ، وهو الكتاب الذي سنستمد منه معلوماتنا التالية، مع تطعيمها بمعلومات مستقاة من مصادر أخرى متفرقة مثل الديوان الوحيد الذي صدر له بعنوان «لآلئ الخليج» في بداية الثمانينات على نفقة الشيخ زايد طيب الله ثراه. لنبدأ من ميلاد الرجل الذي قيل إنه كان في عام 1905، بالرغم من أن أقرب أبنائه إليه وهو ابنه الأصغر «عجلان الجمري» ذكر أن والده أخبره بأن ميلاده كان في «ليلة الإنجليز 1910». حيث كان الناس في منطقة الخليج والجزيرة العربية في ذلك الزمن -بسبب أميتهم وعدم وجود دوائر أو سجلات خاصة بالمواليد والوفيات- يربطون تواريخ ميلاد أحبتهم بوقائع وأحداث تاريخية معينة، مثل سنة الطبعة أو سنة الرحمة أو سنة الجدري وهكذا. أما دراسته فقد كانت في الكتاتيب، حيث تعلم القراءة والكتابة والنحو والصرف والفقه والحساب البسيط على يد الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، وتعلم الحديث والقرآن على يد الشيخ أحمد بن سوقات، وذلك أسوة بأخيه أحمد الذي درس قبله في تلك الكتاتيب حتى غدا رجل علم ودين. وقد كان لتتلمذه على يد هذين الرجلين دور في تمكنه من قواعد اللغة، وبالتالي اتجاهه لقرض الشعر وهو في سن ال15، متأسيا في ذلك بجده وخاله، وصاقلا موهبته الشعرية بمجالسة كبار شعراء عصره، وفي مقدمتهم شاعر الإمارات الشعبي الكبير «الماجدي بن ظاهر»، الذي قال عنه الجمري إنه كان شاعره المفضل دون منازع. في الفترة التي رأى الجمري النور كان الأبناء يتحملون مع آبائهم مسؤولية أسرهم منذ الصغر، إذ كان الأب العامل في الغوص مثلا ينقل أبناءه معه على ظهر السفينة ليؤهلهم ويربطهم بالبحر مبكرا. ولما كان والد شاعرنا يعمل غواصا فقد اصطحب ابنه معه إلى البحر، لكن دون أن يدفعه إلى الغوص بسبب صغر سنه إذ لم يتعد العاشرة وقتذاك، مكتفيا بتشغيله «تبابا» على ظهر المركب أي مساعدا في عملية فلق المحار، وخادما للنوخذة والغواصين. في ال15 من عمره صار الجمري «غيصا»، وراح يصارع أهوال البحر كغيره بحثا عن الرزق، لكن اعتماده على البحر وعدد مرات ذهابه للغوص ازداد بعد أن توفي والده في منتصف ثلاثينات القرن العشرين. كما أن البحر سلبه واحدا من أعز أصدقائه وندمائه وهو الشاعر والمغني والملحن «محمد بن علي الخطيبي» المكنى «أبو علي»، وهو ما جعله في حالة نفسية سيئة لفترة طويلة، جسدها في مرثية مؤثرة كتبها بُعيد تلك الحادثة المأساوية التي كان سببها اختلاف الخطيبي مع نوخذة سفينته والخروج منها غاضبا إلى البحر بحثا عن سفينة أخرى، ليجد نفسه في مواجهة أمواج ابتلعته. من أبيات المرثية اخترنا لكم: البارحة ما زال جفني يا «علي» من زود لاهوب يشب ويشعلي باقصى الضمير وطول ليلي ما خفت يلين عاينت الصباح المقبلي وأنا على نار الوقايد كنني لا تنطفي عني ولا تتبدلي حتى نحل حالي وكاتم علتي واللي يرى حالي يظن اني خلي لي من ذكرت أيام دنيا قد مضت هاج الأسف وزهدت عصري الداخلي بأسباب هذا خفت خونات الدهر وأيقنت أن المستخر كالأولي استمرت علاقة الجمري بالبحر والغوص على اللؤلؤ 17 عاماً، عانى خلالها كثيرا، لكنه استفاد منها ماديا واجتماعيا. إذ تمكن شيئا فشيئا من استئجار سفينة والعمل لحسابه والتحول بالتالي من مجرد «غيص» إلى نوخذة. وفي إحدى رحلات الغوص التي كانت تبدأ عادة في يونيو وتنتهي في أكتوبر وتبقى خلالها المراكب بعيدة عن اليابسة.. طيلة هذه الفترة كاد الجمري يخسر بسبب تواضع المحصول مقارنة بتكاليف الرحلة، لولا أن محارة أخيرة وقعت في يده، فلما فلقها وجد بداخلها دانة كبيرة الحجم من الدانات التي كان ثمنها يقدر بعشرات الآلاف من الروبيات. وفي هذا السياق يُقال إن خبر الدانة انتشر في دبي، وبلغ مسامع أحد كبار تجارها آنذاك وهو «محمد بن أحمد بن دلموك» الذي سارع قبل غيره إلى دار الجمري للاستحواذ على الدانة شراء. وبعد مساومات قبل شاعرنا أن يبيع الدانة لابن دلموك مقابل مبلغ كبير بأسعار ذلك الزمن وهو 10 آلاف روبية. الكويتدبيالدمام.. محطات البحث عن الرزق في هذه الأثناء كان سعر اللؤلؤ يتهاوى بسبب ظهور اللؤلؤ الصناعي الياباني، فلم تعد مهنة الغوص بحثا عن اللؤلؤ مجدية، أو تفي بمتطلبات المعيشة التي كانت تزداد صعوبة بسبب الكساد العالمي، وظروف الحرب العالمية الثانية، وما أفرزته من بطالة وغلاء وشح في المواد والسلع الضرورية. لكن الله قدر لأبناء الخليج البديل وهو النفط الذي بدأ يتدفق من أراضي البحرينوالكويت والسعودية وقطر، جالبا معه فرص العمل الكثيرة سواء في القطاعات النفطية أو قطاع الخدمات ذات الصلة. ولهذا هاجرت مجاميع كبيرة من مواطني مشيخات الساحل السبع بلادها إلى دول الجوار الخليجي للبحث عن العمل، تاركة خلفها أسرها وأهلها. وكان من بين هؤلاء سالم الجمري الذي شد رحاله مع بعض أصدقائه إلى الكويت على ظهر مركب شراعي. في الكويت، عاش شاعرنا نحو سنتين عمل خلالهما في منطقة الأحمدي البترولية وملحقاتها مثل «وارة» و«برقان». وكان عمله في مجال البناء طبقا لمطلع قصيدة شهيرة له قال فيه: «ما حيدني في دبي شليت بواردي ومربع امتان». ذلك أن البواردي والمربع هي الأعمدة الخشبية الصلبة التي تستخدم في البناء. ومن الكويت، عاد الجمري إلى دبي، لكنه ما لبث أن شد رحاله إلى الخارج مجددا في عام 1952 تقريبا، فاختار مدينة الدمام في شرق السعودية للبحث عن عمل يسترزق منه. كانت الدمام وقتذاك محجة الباحثين عن الرزق من أبناء إمارات الساحل المتصالح الذين عُرف عنهم تفضيلهم العمل في المنطقة الشرقية على سائر المناطق السعودية الأخرى، بسبب عوامل قربها من وطنهم الأم وتشابه عادات أهلها مع عاداتهم، إضافة إلى وجود فرص وظيفية كثيرة بها من تلك التي خلقها اكتشاف النفط في الظهران. في الدمام، امتهن الجمري في البداية مهنة كتابة العرائض للناس أمام مبنى إدارة الجوازات والإقامة، خصوصا أن خطه كان جميلا وإنشاءه كان قويا، ناهيك عن أن تلك المهنة لم تكن تتطلب رأسمال سوى بضعة أوراق بيضاء مقلمة (كان يطلق عليها ورق حجازي) وقلم حبر من نوع «باركر». وحينما لاحظ كثرة أسئلة زبائنه عن محلات التصوير عرف بالبديهة أن الدوائر الرسمية السعودية تطلب من أصحاب العرائض أن يرفقوا عرائضهم ومعاملاتهم بصور شمسية، كان يطلق عليها باللهجة الدارجة «عكوس» ومفردها «عكس». وهكذا فطن الجمري إلى أنه لكي يعزز دخله المتواضع من كتابة العرائض فإن عليه افتتاح محل للتصوير قريب من مبنى الجوازات بالدمام. وسرعان ما تمكن من فك ألغاز مهنة التصوير وأسرارها ومستلزماتها من خلال التردد على أحد مواطنيه ممن كانوا يديرون محلا للتصوير في الدمام. لكنه كان بحاجة إلى دروس عملية، فكان أن سافر إلى البحرين من فرضة الخبر لكي يتعلم ما ينقصه من خبرة في مسائل الإضاءة والتحميض والطبع. وحينما عاد الرجل من البحرين جلب معه كاميرات تصوير ومعدات إضاءة، وما لبث أن استأجر محلا بالدمام بجوار محل «إسطوانات سهيل» الذي كان يملكه المطرب الإماراتي محمد سهيل، وبدأ في ممارسة مهنة التصوير، دون أن ينقطع عن مهنة كتابة العرائض. كان الجمري يجلب ما يحتاجه من مستلزمات التصوير من الخبر، وذات مرة وهو عائد إلى الدمام مع بضاعته في سيارة أجرة وقعت للأخيرة حادثة سير توفي فيها ثلاثة ركاب، ونجا هو بأعجوبة. فكانت هذه الحادثة، إضافة إلى ما كان يلاقيه من مضايقات مستمرة من قبل من يحرّمون التصوير، وما كابده من حزن وألم بسبب وفاة زوجته قماشة في دبي وهو بعيد عنها، دافعا له للعودة إلى دبي على الرغم من أن مدة عمله في السعودية التي قاربت السنوات الثلاث كانت حافلة بالخير والتجوال ما بين الدماموالظهران والمنامة والدوحة، بل والحلول ضيفا لمدة ثلاثة أيام على الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه في الرياض، ناهيك عن أن تردده على الخبر جعله يتعرف على الشاعر الأحسائي «إبراهيم بن دعلوج» الذي كان لديه محل للتصوير في الخبر، ويسمع منه قصائد لأهم شعراء شبه الجزيرة العربية من أمثال حمد المغلوث، مبارك بن حمد العقيلي، محمد القاضي، محمد بن لعبون. في دبي ذاع صيته شاعرا ًغنائيا ً بعد عودته إلى دبي من السعودية متسلحا ببعض المال، وخبرات في التصوير، ومعرفة أعمق بالشعر في الجزيرة العربية، افتتح الجمري محلا للتصوير في «سوق السبخة» حيث ظل يمارس مهنة التصوير لمدة ثلاث سنوات، قبل أن يهجرها إلى تجارة الذهب والأقمشة والبهارات والعطور التي بسببها تنقل ما بين دبي، والهند، وعمان، واليمن، وزنجبار، وسيلان، وإيران. في أوائل الستينات تعرف الجمري على «محمد علي العماني» صاحب تسجيلات «هدى فون» التي كانت وقتئذ من أشهر محلات التسجيلات في دبي وتصدر منها معظم الأشرطة والأسطوانات الغنائية، إذ كانت التسجيلات تُرسل إلى اليونان بالبريد كي يتم تسجيلها فوق أسطوانات بلاستيكية، ومن ثم ترسل نسخة منها إلى أصحابها للتجربة والحكم عليها، فإذا ما لاقت رضاهم طلبوا كمية منها، علما بأن الكمية كانت تراوح ما بين ألفين وثلاثة آلاف أسطوانة، وتباع الواحدة منها ب10 روبيات بالمفرق، وخمس روبيات بالجملة. في محل العماني سالف الذكر التقى الجمري للمرة الأولى بالمطرب الشعبي الإماراتي «علي بن روغة» الذي كان وقتها صبيا صغيرا جميل الصوت، وعازفا ماهرا على العود، ولا يحفظ سوى قصيدة سعودية مطلعها «بسري بليل أغماسي قصدي أزور الحبيب». يقول الجمري عن ذلك اللقاء إنه استمع لابن روغة وأعجب بصوته وتنبأ له بمستقبل عظيم في مجال الأغنية الشعبية، ونصحه بغناء اللون البدوي. كانت تلك بداية فصل جديد من حياة الجمري غلبت عليه كتابة الشعر الغنائي، والتعاون مع ابن روغة، بدليل أنه في الفترة اللاحقة غنى ابن روغة نحو 100 أغنية من أشعار الجمري ابتداء من أغنية «يا علي اعزف بصوت وغن لي». وهكذا شكل الجمري وابن روغة ثنائيا ذاع صيته في الإمارات، بل تعداه إلى دول الخليج المجاورة. إذ ذكر الجمري مثلا «مرة طلبنا خالد فون من قطر أنا وابن روغة، وطلب منا تسجيل 10 أغان في جلسة واحدة، فطلبت منه أن يمهلنا حتى الصباح.. وعملت في تلك الليلة 10 قصائد لم يأخذ تلحينها وغناؤها أكثر من خمس ساعات، وفي الصباح غنى المطرب ابن روغة بها كلها». وفي هذه الفترة، كان الجمري قد ترك التجارة وامتهن الصيد البحري، الذي سرعان ما تحول إلى مجرد هواية له، فيما صار مصدر رزقه منذ عام 1963 هو العمل موظفا في دائرة الأراضي والأملاك بدبي. وحينما بدأت محادثات توحيد إمارات الساحل السبع مع البحرينوقطر في نهاية الستينات تحمس لها الجمري وراح يتابع أخبارها بشغف من إذاعة «صوت الساحل» من الشارقة، التي كانت وقتذاك إحدى الروافد المحلية القليلة لتزويد الناس بما يدور حولهم، وذلك انطلاقا من حسه الوطني وشعوره بوحدة الدم والتاريخ والدين بين أبناء الخليج. وحينما أعلن عن قيام دولة الإمارات في عام 1971 كان الجمري في مقدمة من ذهبوا إلى رئيس الدولة الشيخ زايد لتهنئته. في سنة 1975 بدأ الجمري يشكو من متاعب صحية فسافر إلى بريطانيا للعلاج، ثم سافر للغرض نفسه إلى الهند ومصر في العام التالي. ومع تقدمه في السن ورحيل أصدقائه المقربين قرر الجمري الابتعاد عن الأضواء وبرامج الشعر الشعبي التلفزيونية قائلا: «العمر له أحكام، وأريد ترك الفرصة للشعراء الشباب». وظل على هذه الحالة لا يفعل شيئا سوى زيارة من تبقى له من أصدقاء أو الخروج إلى الصحراء، إلى أن توفاه الله في 28 فبراير 1991.