كنت تحدثت منذ عام عن الشاعر العقيلي الأحسائي الذي عاش في دبي فترة طويلة من حياته، واليوم سنأتي على طرف من حياة شاعر الإمارات العربية المتحدة سالم الجمري الذي عاش بين عامي 1910 – 1991م بعد أن تنقل بين الإمارات ودول مجلس التعاون وعاش فيها فترة زمنية ليست بالطويلة، ولكنها عمقت علاقاته الشعرية والاجتماعية بشعراء وأبناء دول المجلس قبل قيامه الرسمي، أما العلاقة الأخوية فقد عمقها التأريخ والقربى. فمن المعروف أن قيام دولة الإماراتالمتحدة كان في الثلث الأخير من القرن العشرين مصاحبة لنهضتها العلمية والاقتصادية، وكان أبناؤها كغيرهم من دول المجلس يتنقلون بين مدن هذه الدول لطلب الرزق، وكان الترحيب بهم متبادلاً، والتعاون قائماً، يؤكد ذلك الأدب وبخاصة الشعر. يذكر الأستاذ سلطان العميمي في كتابه: "سالم الجمري حياته وقراءة في قصائده" ط3 الصادرة عن أكاديمية الشعر التابعة لهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، وهي أكاديمية تعنى بالثقافة ولها إصدارات هامة في الأدب الشعبي من بينها هذا الكتاب للباحث القدير الذي أجاب في دراسته عن تساؤلات كثيرة عن هذا الشاعر المبدع الذي غادر دبي إلى الشارقة قبل وحدة الإمارات ثم إلى الكويت يرافقه كثير من أبناء الإمارات، وفي الكويت جرى بينه وبين شعرائها حوارات شعرية، ولكن حنينه إلى مسقط رأسه كان يشغله عن ما يتمتع به من راحة في الكويت، فكانت هذه المشاعر غذاء لمشاعره، وكانت مشاعر الحنين تطغى على مشاعر الارتياح كما يظهر في قصيدته التي منها: لولي بخت ما سرت لكويت ولا بعد فارقت الاوطان بلا صديق وولف تمّيت مستوجد روحي وحيران من الحسايف قلت يا ليت عزوا لروحي دون خلان ما انقل عزاهم لو تعزيت الحب يسلب حال الإنسان الى ذكرت الولف ونّيت خرَّت دموعي فوق الاوجان أسميك يا حظي تردَّيت وابعدتني عن ساحل عمان من بعد أنس وكيف ومبيت ومنادمة مدعوج الاعيان اليوم حالي في تشتيت في "الأحمدي" و"وارة" و"برقان" كانت الإمارات قبل وحدتها تدعى "ساحل عمان" ثم "الإمارات المتصالحة" واليوم "الإمارات العربية المتحدة"، ومصدر معاناة الشاعر في الكويت أنه كان بين الأحمدي ووارة وبرقان وكلها معسكرات عمل لانتاج البترول، وهي مناطق عمل شاق، وكلها فرق عمل لا يتاح فيها الاختلاط بعامة السكان والأسواق. ورغم أن الحياة في معسكرات العمل تصنع مجالات جميلة للشعراء لتفريق همومهم بالمحاورات الشعرية بعيداً عن الالتزامات والمشاغل الاسرية إلا أن الشوق للأهل رفيق ملازم للمغترب، وبخاصة في العطلات الأسبوعية عند ما يخف المواطنون إلى أهلهم، في زمن لم تكن الحياة الاجتماعية ووسائل الاتصال كما هي اليوم. وربما كانت معاناة الجمري وأشواقه غالبة على أمره، حيث نجد الشاعر الإماراتي ياقوت بن جمعة شريكه في الغربه لا يوافقه على مشاعره فيرد عليه: حي الكتاب وحى ما ريت نظما لفانا منك يا فلان إلى قوله: لولا الكويت ان كان ولّيت في الوصل با يضرب بك اعلان ضيّعت عن مجراك ضلّيت اقبض سنادك خط ربان أخطيت يا الشاعر وزلّيت نلت العفو واطّلب السمحان لا تقول يا حظي تردّيت اتبع نصيبك وين ما كان اليوم من مسعاك كدّيت أورثت دشن غالي الاثمان والشاعر ياقوت يبين ايجابيات الغربة في الكويت وسلبيات البقاء في "الوصل" وهو اسم "دبي" قديما. ولكن مشاعر الشاعرين تحكمها تداعيات الأشواق ورقة القلوب: لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها ومن عادة الشعراء تلمس نقاط ما يحتمل الخطأ فيصطا دونه عند الرد كما فعل ياقوت، وقد رد الجمري على مواطنه بقصيدة طويلة منها: عارضتني من غير تثبيت ملحظ جواب ومنطق لسان والا بدرب الحق ما جيت بينك وبين الحق شتان عاتبتني في عتب الكويت بدون عرف وغير برهان ثم يصف الحياة العمالية والمشرفين الأجانب وعنتهم والانضباط وتبدل بعض القيم مما لا يرضاه الشاعر، ويذكر محاوره بحياة دبي: دبي فيها عشت وابهيت انته وانا حتى اْهل الخان وان كان عن "ديرة" تعزّيت غيرك عليها صار شفقان لا تلومنى لي قلت ما اسليت حب الوطن من بعض الايمان وقد رد ياقوت بقصيدة أخرى اختتمها بقوله: هذا وتم القيل يا فلان نو فيك يا الشاعر بالاحسان ومن الكويت إلى الدمام وفيها يلتقي كثير من أبناء الإمارات ويمارس مهنة كتابة المعاريض الشخصية إلى الجهات المعنية، فهو يجيد القراءة والكتابة، ولما وجد ضرورة مصاحبة التصوير لعمله تلقى دورة تدريبية في البحرين وأنشأ محلا للتصوير في الدمام، كان ذلك في العام 1954م، وبعد فترة تعرض لحادث مروري فعاد إليه الشوق إلى الإمارات. وكان محله التجاري في الدمام ملتقى لابناء الإمارات وشعرائها المقيمين في الدمام يمارسون نشاطهم العملي والتجاري بحرية تامة، ولكنهم مثل الجمري يعانون من فراق ديارهم وأهلهم حتى أن الجمري تلقى من الشاعر بطي العميمي رفيقه في الغربة الأبيات التالية متذمراً من حياة الدمام وهي: البارحة بت بمليلة وقلبي تقلي فوق لاهوب والله يالو شي حيلة عن سيرة الدمام يا توب با قطع مروري بالعييلة في جيب والسواق مذروب ماريت منسوع الجديلة شرهٍ: يخوّز هم القلوب عباه والشيفة مليلة ولا تعرف شيفتها من الثوب إلا أن الجمري لم يعرها اهتماماً ولم يجبه عنها، غير أنه يقول: دمّيت في الدمام دمّيت عنكم ولا بانت لي اخبار لا رحت لا محيّر ولا مبيت مثل الذي حلت به اقدار من عقب ناسي ما تسليت دب الدهر طايح ومحتار ولى من ذكرت الولف ونّيت أبكى عسر والدمع نثار بلاد مثل دبي ماريت جعل الحيا يسقيك يا دار ويقول الكاتب: وكان للفترة التي قضاها – الجمري – في المملكة أثر كبير في اطلاعه على الأدب والشعر فيها. وتأثر بشعرائها مثل المغلوث والعقيلي والقاضي وابن لعبون وغيرهم: وقد قابل الملك عبدالعزيز رحمه الله وأقام في ضيافة جلالته أياماً. والكتاب جدير بالقراءة لمحتواه الأدبي، ومنهج الباحث القدير في الدراسة المعززة بالفكر الاجتماعي والثقافي والشمولية التي يسعى إليها محبو القراءة. أما النماذج الشعرية التي أوردها الباحث ولم نتطرق لها فذلك ما يؤكد حضور الجمري وفطرته الشعرية، وقد نروم الكتابة عنها مرة أخرى. أما ما يلفت النظر هنا فأدبيات التأريخ الاجتماعي بين أبناء دول المجلس وتعاونهم منذ القدم فقد كانت كل دول المجلس مهوى أبنائها التماساً للرزق والأمن وتأكيداً هو للوشائج والاواصر التي تشد بعضهم إلى بعض. وإلى المتلقى. سلطان العميمي غلاف كتاب سالم الجمري حياته وقراءة في قصائده