يكاد المواطن يتوارى خجلاً حين يعرف عن حضارات العالم وتاريخها ومعالمها الأثرية ومدنها أكثر مما يعرف عن بلاده ! ولست أعلم لمن أوجِّه العتب، هل لقصور الوعي السياحي لدينا؟ أم لعدم وجود وسائل الجذب السياحية؟ أم لأسباب أخرى؟! ومنطقة نجران بوابة بلادنا الجنوبية من المناطق التي لم تأخذ نصيبها من السياحة، رغم أنّ من يدخلها يشم عبق التاريخ ورائحة العراقة، ويشاهد مهد حضارات وثقافات ضاربة في القدم، لاسيما منطقة الأخدود الأثرية الواقعة في الجنوب الغربي من نجران، المتميزة بالحفر العميقة التي حفرها الملك ذو نواس أحد ملوك التبابعة حين دخل نجران بجيش كبير، محاولاً فرض الديانة اليهودية بدلاً من النصرانية ديانة أهل نجران آنذاك، وقام بتخيير الناس إمّا اعتناق ديانته اليهودية أو الحرق، ورفض الناس دينه، فقام بحفر خندق كبير وأخاديد في الأرض وأضرم النار بها. وقضى ذو نواس بالحرق على ما يزيد على عشرين ألف موحد في مدينة كاملة! والعجيب أنّ تلك الأخاديد مازالت شاخصة باقية كما حفرتْ داخل المدينة المنكوبة بصخورها العظيمة، ومنازل القوم ورسومهم الغريبة، وشوارع المدينة الضيقة والقلعة التي تضم خمسة وعشرين مبنى. أما تلك المحرقة المخلوطة برماد جلود الناس وأجسادهم وبقايا العظام الهشة فلازالت آثارها باقية، شاهداً على ظلم عظيم رغم مرور مئات السنين، لم تبرح تذكِّر زائريها بصراع الحق والباطل. حيث حصلت المذبحة الكبرى قبل ظهور الإسلام بما يقارب 70 عاماً على رواية عبدالله بن عباس. ولهذا تُعَد منطقة نجران إحدى القرى المحفوظة التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس أنه قال: (القرى المحفوظة أربع: مكةوالمدينة وإيليا ونجران، وما من ليلة إلا وينزل على نجران سبعون ألف ملك يسلمون على أصحاب الأخدود) بحسب معجم البلدان المجلد الخامس. وبرغم أنّ الأخدود يُعَد موقعاً أثرياً يحكي حضارة جنوب الجزيرة العربية التي ازدهرت منذ 600 سنة قبل الميلاد وحتى منتصف الألف الميلادي، إلاّ أنّ تلك المنطقة ما زال يكتنفها الغموض والأسرار واستمرار عمليات التنقيب والحفر المتواصل على مدى سنوات متتالية. وقد قامت إمارة نجران بتسوير تلك المواقع للسياحة واستحضار العبرة، كما وضعت فيها حراسات خاصة للمحافظة عليها ومنع التبرك بها، وجعلت لها نظاماً للدخول والتجوُّل بها والتصوير، وبإمكان السائح بعد الحصول على إذنٍ زيارتها بسهولة تامة. وأهل نجران أهل شهامة وكرم، بل لهم ميزة خاصة في التعاون والتعاضد فيما بينهم، وعدم الاعتداء على غيرهم، وبرز ذلك إبان زيارتهم للرسول صلى الله عليه وسلم حين قال لهم (بم كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية؟) قالوا لم نكن نغلب أحداً. قال (بلى قد كنتم تغلبون من قاتلكم) قالها أربعاً. فقالوا عند الرابعة: كنا نغلب من قاتلنا يا رسول الله أنّا كنا نجتمع ولا نفترق، ولا نبدأ أحداً بظلم، قال عليه الصلاة والسلام (صدقتم) وأمّر عليهم قيس بن الحصين ذا الغصة. ومن العابدين الموحّدين بها أيام الجاهلية قس بن ساعدة الأيادي الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم (رحم الله قساً، أما أنه سيبعث يوم القيامة أمة وحدة) بحسب ما ورد في مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب. وشرف لأهل نجران ترحمه عليه السلام على بعضهم، ووصف البقية بالصدق. والمعروف أنّ أهل نجران قد دخلوا الإسلام اقتناعاً وإيماناً لا بالسيف والقتال. وتحية إكبار لأهل نجران من جميع مشاركي ومشاركات الحوار الوطني الثامن الذي كان له دور بارز في تنشيط السياحة الوطنية. ودعوة صادقة لزيارة هذه المنطقة الغالية. ومن دواعي المواطنة إبراز مخزون الوطن الأثري والحضاري والثقافي، إظهاراً لمكانته ودوره في مسيرة الحضارة الإنسانية.