يخرج من أفواه من لا كلمة لهم: من كان يظن في أحلى أحلام الصحو أو المنام أن الربيع العربي سيجرؤ على الخروج من جلد من لا معطف لهم ومن أكف من لا يملكون قوت يومهم ومن أفواه من لا كلمة لهم، من المعتقلات السحيقة ورطوبة الشقق الضيقة ووحشة «الترب»، ومن مقصلة الإقصاء ومحاضن الإذلال وطوابير التخنيع، من كتب الفكر ومقالات الرأي التي بالكاد ترى النور... ليمشي في وضح النهار عالي الرأس مشدود القامة على الرصيف وفي الميادين. يرفع أيدي الشباب بإشارة النصر من المحيط إلى الخليج ومن تويتر إلى الفيس بووك غير آبه بهروات التخويف؟!. ولكن من يظن أن حلم الحريات مستحيل رابع, يخون خياله وواقعه معا, ولا ينصف قدرات الشعوب وقصائد الحرية منذ الأزل. أثمان الحرية: من كان يظن في أسوء كوابيسه أن الربيع العربي الذي ابتدأ تلك البداية السلمية المدهشة في تونس لدرجة أن سمي بثورة الياسمين والذي تحرك أجنحة الحمام بميدان التحرير ماعدا هجمة الجمال الهائجة، سينقلب إلى زلزال مضرج بدماء طلاب الحرية في اليمن وليبيا وسوريا عدا عن لوعة عودة التدخل العسكري الأجنبي؟!. ولكن من خال أن تحقيق الحريات بلا أثمان, يظلم التاريخ والمستقبل معا، ويخون سيرة أولئك الشجعان الذي بذلوا أرواحهم احتجاجا على ذل أو ضيم وطلبا لحياة كريمة على مر العصور. طيش ثوري: أما من يظن في أشد حالات التفاؤل أو الطيش الثوري بأن الربيع العربي في ظرف عام واحد أو عامين سيقلب التخلف إلى تقدم ويقلب التبعية إلى استقلال ويقلب مخالب الصقور المتربصة داخليا وإقليميا ودوليا إلى حمامة سلام، ويقلب أنواع التعصب الديني والعرقي والمذهبي وسواه إلى تسامح وتعايش سلمي, ويقلب عادات الاستبداد العتيدة إلى حالة من المساواة العامة والعدل المطلق في العلاقة بين الكبير والصغير، وبين المرأة والرجل وبين الرئيس والمرؤوس, ولا يأتي إلا بالحكم العادل الراشد المستنير من أول تجربة، فإن مثل هذا الموقف لا يخلو من سذاجة وتبسيط مخل لتعقيد الفعل الثوري ولشروط التغيير. وهذا قد يعود لقلة الخبرات في قراءة التاريخ وقلة المعرفة في علم اجتماع المستقبل أو يعود إلى فشل الخيال وقلة الصبر ولكنه أياً كان يعاني ببساطة باهظة من الفهم الرومانسي لمعنى الربيع العربي الذي على جماليته لا يقدر مطالب التحولات الجذرية حق قدرها. بما قد يجعلنا قابلين لاستبدال الأمل الذي خلقه الربيع العربي باليأس القديم، وقابلين لتعطيل حاسة النقد الخلاق للقائم بالنقمة القاتلة على القادم وغير قادرين وهذا الأفدح على امتلاك الرؤية والهدف والبحث في آليات وضمانات العمل للانتقال من مرحلة إسقاط نظام بائد مستبد إلى مرحلة بناء نظام سياسي واجتماعي جديد وحر ومنصف. ليس بين عشية وضحاها: وفي هذا السياق، لو أخذنا مثال الثورة الفرنسية 1789م كواحد من أشهر الأمثلة للثورات التي غيرت وجه المجتمع تغييرا جذريا, فنقلته من حكم الملكية المطلقة إلى الحكم الديموقراطي التداولي ومن تسلط خرافية الخطاب الديني الكاثوليكي إلى الاحتكام لدستور وطني ومن الاحتكار الفئوي للنفوذ من قبل الطبقة الارستقراطية إلى المساواة الحقوقية أمام القانون ومن المجتمع الإقطاعي إلى مجتمع مدني متعدد، فإننا سنجد أن ذلك لم يتم بين عشية وضحاها كما لم يتم إلا بنفس مرحلي طويل. على أن الجدير بالملاحظة هنا أن مثل هذه الثورات الجذرية لم تكن لتنجح لولا تراكم أسباب القطيعة الفلسفية والمعرفية فكريا وقيميا ووجدانيا وسلوكا بينها وبين العهد السابق. بمعنى إن إسقاط النظام وحده أو ملاحقة فلوله لا يؤدي لإسقاط النظام ولا لإسقاط خطابه لأنه ما لم تجرِ عمليات واعية ومقصودة لتغيير الأسس الفلسفية ولتغيير البنى الاجتماعية ولتغيير أنماط التفكير والتفاعل الاجتماعي وعلاقات القوة التي كان يستند عليها ذلك النظام الاستبدادي الذي أسقط, فإنه لن يحدث إلا تغيير النظام بنظام لا يلبث أن يجد في تلك الهياكل القديمة مجالا لإعادة إنتاج الاستبداد وللسطو على أي مكتسبات تكون قد جاءت نتيجة اندلاع الفعل الثوري. ليس باندلاع الثورة وحدها يتغير النظام: ومن هنا قد لا يكون من الذكاء السياسي ولا الوطني الانشغال فقط بمن يأتي للسلطة بعد الثورة إن جاء ذلك على حساب السؤال الأهم وهو سؤال تغيير فلسفة وتركيبة وآليات النظام من ناحية والقوى الاجتماعية من ناحية أخرى بما يخلق ضمانات دستورية وقانونية تمنع أياً كان من الاستمرار في السلطة وإن وصل إليها ما لم يكن بمستطاعه المضي في القطيعة مع نظام الاستبداد السابق وجميع أسبابه، في نفس الوقت الذي يكون فيه عازما على اتخاذ كل المبادرات والقرارات التي تؤدي لخلق نظام جديد قادر على تحقيق أهداف الثورة في الحرية والمساواة والكرامة. هذا بشرط الشروط وهو أن الوطن للجميع والبقاء لله وليس لأحد أن يخلد في السلطة مرة أخرى. أما ما الذي يضمن تحقق مثل هذا الشرط خاصة في هذا المدى القصير الذي لم يشتد فيه بعد عود القطيعة مع نظام الاستبداد فهو قوة القانون وتلك القيم الثورية الجديدة التي خلقها الربيع العربي ومن أبرزها قيمة الجرأة في الحق وقيمة الإرادة الوطنية المشتركة وقيمة المقاومة بالإضافة لحزمة مضيئة من تلك القيم الربيعية التي لازالت تتفاعل لتجديد هياكل البنية القيمية القديمة، بما لا زلت أنوي تناوله كما وعدت الأربعاء الماضي إلا أنني أتركه للأسبوع القادم بإذن الله. ولله الأمر من قبل ومن بعد. المصدر صحيفة الجزيرة