أحرَق محمد بوعزيزي نفسه في تونس، فانتفضت مصر، وخُلِع الرئيس المصري فاهتزت ست دول عربية (ليبيا واليمن والبحرين والجزائر والأردن والمغرب)، وقد يلحق بها السودان والعراق وإيران قريباً. هل هي عودة القوة المصرية الناعمة؟ ربما، ولكنها أيضاً حكمة التاريخ الذي يعيد رسم الخرائط السياسية في المنطقة والجميع ينتظر دوره. ما يحدث الآن فى العالم العربي لا يمكن وصفه بأقل من كلمة «ثورة» وإن حاول البعض تخفيفها حتى لا يقع فى حرج لغوي، فهي ثورة على الذات وعلى الماضي. وهي ثورة في الوعي والتوقعات وأدوات النضال والاحتجاج. وهي أيضاً ثورة في الشعارات والهتافات والمفردات ولغة الخطاب. فالوجوه التي تطل عبر شاشات الفضائيات فاهرة أفواهها لم تعد تقنعها شعارات التغيير والإصلاح والتطوير، وهي ترفع جميعاً شعاراً واحداً هو «الشعب يريد إسقاط النظام». أليس هذا شعاراً ثورياً؟ وعندما يُقتل العشرات ويُصاب المئات من أجل الحصول على الحرية، أليست هذه غاية ثورية؟ وعندما تتم الإطاحة بأنظمة شاخت في مقاعدها وتيبست عقولها وأطرافها، أليست هذه نتائج ثورية؟ نحن إذاً إزاء حالة جديدة وغير مسبوقة في الوعي الجمعي العربي، وهي حال زئبقية تتحرك في شكل سريع ومستمر بحيث لا يمكن أحداً أن يتوقع أين ستتوقف أو التنبؤ بمآلاتها. وهنا بعض الملاحظات الأولية حول الثورات العربية: أولاً: هذه الثورات هي ثورات «تحتية»، أي أنها لم تأت من أعلى سواء من خلال انقلابات عسكرية أو بإرادة سيادية من النظام السياسي، على غرار ما حدث طيلة العقود الستة الماضية. ولعلها المرة الأولى في العالم العربي التي تصبح فيها المجتمعات والشعوب هي صاحبة الكلمة في تحديد مصير رؤسائها وأنظمتها. لذا فقد تمتعت هذه الثورات بقدر عالٍ من العفوية والسيولة التي يصعب احتواؤها وإجهاضها. صحيح أن جموع المواطنين عندما يخرجون للتظاهر ربما لم يقصدوا القيام بثورة وفق التعريف الاصطلاحي للكلمة، ولكنهم قطعاً خرجوا وهم في مزاج ثوري يرغب فى إحداث تغيير جذري من قمة النظام السياسي إلى أخمصه، لذا فإن ثورتهم لا تتوقف إلا بأحد خيارين: إما هروب الرئيس أو تنحيه وزوال حكمه، وربما نرى خيارات أخرى خلال المرحلة المقبلة. ثانياً: هذه الثورات تتجاوز ليس فقط الأطر الكلاسيكية للتنظيمات والجماعات السياسية العربية، وإنما أيضاً المقولات السياسية والايديولوجية التقليدية. وهي هنا ليست ثورات موجّهة ضد الأنظمة السلطوية فحسب وإنما أيضاً ضد معارضيها ونخبها. وهي هنا أشبه بعملية تطهير للنخبة السياسية القائمة في شكل جذري. بكلمات أخرى، حين تقوم الثورات فإنها لا تنهي فقط شرعية الأنظمة السلطوية وإنما أيضاً تنهي معها شرعية المعارضات السياسية التي تجاوزتها الكتل الاجتماعية التي تشكل القلب النابض لهذه الثورات. ويصبح من غير المقبول بعد سقوط الأنظمة السلطوية أن تسعى قوى المعارضة إلى حصد ثمار الثورات وامتطائها من أجل تحقيق مكاسب سياسية وحزبية. ثالثاً: تتميز الثورات العربية بغياب قيادات أو رؤوس منظّمة ومحرّكة لها في شكل عمودي. ولعل هذا أحد أسباب قوتها ونجاحها. ففي الحالة التونسية لم تكن هناك قيادة موحّدة للثورة، وإن كانت هناك جماعات عمالية ومهنية تغذّي الثورة بدماء جديدة. وفي الحالة المصرية، وهنا يبدو الأمر مدهشاً، لم توجد قيادة موحّدة للثورة ولا حركة تنظيمية تغذيها في شكل مؤطر، وإنما كانت هناك جماعات تتحرك في شكل أفقي وتتلامس مع بعضها في دوائر أفقية سوف يُعرف الكثير عنها مستقبلاً. أما في الحالة الليبية، فيبدو الأمر حتى هذه اللحظة أكثر ضبابية وإن كانت أقرب الى انتفاضة عفوية تحرّكها مظالم تاريخية ونفسية انفجرت في شكل فجائي وهائل. رابعاً: هذه الثورات لا تستهدف فقط خلع الأنظمة السلطوية العربية، وإنما أيضاً تسعى لتأسيس نظم وجمهوريات جديدة على أسس ديموقراطية سليمة. وهنا تبدو المفارقة مذهلة، فعلى مدار العقود الماضية كان الخطاب الرسمي العربي يمارس جميع أنواع التشويه ضد فكرة الديموقراطية، وكان الإعلام السلطوي يزاوج بخبث بين مسألتي الديموقراطية والعلمانية إلى الدرجة التي بات مجرد ذكرهما أشبه بالوقوع في الخطيئة، وهو ما ترك أثراً سلبياً لدى قطاعات واسعة من الجمهور العربي بما فيه بعض المثقفين ورجال الدين الكلاسيكيين تجاه المسألة الديموقراطية. لذا فقد كان مدهشاً أن نرى وجوهاً مصرية وتونسية تخطّها تجاعيد الشيخوخة تنادي بالديموقراطية والحرية. خامساً: هذه الثورات لا تعترف بخطوط حمر، ولا تلتزم قواعد اللعبة السياسية التقليدية. فهي عندما تشتعل ترفض فكرة الحلول الوسط، وكأنها تسير في طريق ذي اتجاه واحد هدفه رأس النظام. من هنا يبدو الإصرار على إكمال الطريق حتى آخره أمراً بديهياً ولو دفعت في سبيله الغالي والنفيس. وقد سمعنا وشاهدنا طيلة الأسابيع الماضية قصصاً عن مواطنين بسطاء دفعوا بأبنائهم للتضحية في سبيل الحرية. وهو ما يعد تحوّلاً نوعياً في بنية العقل العربي في ما يخص مفاهيم التضحية والاستشهاد، يتطلب التوقف أمامه وإدراك دلالاته ومغزاه. سادساً: والأهم، أن هذه الثورات لا تعبأ كثيراً بحسابات القوى والأطراف الخارجية، ولا تعوّل على دعم هذا الطرف أو ذاك. بل على العكس فقد كشفت الثورتان المصرية والتونسية وأخيراً الليبية أن القوى الغربية تمثل عقبة في وجه الثوّار، إما بسبب دعمها وحمايتها للأنظمة السلطوية أو نتيجة صمتها على ما تقترفه من جرائم في حق مواطنيها كما هي الحال الآن في ليبيا. وقد أسقطت هذه الثورات كل أقنعة الزيف والازدواجية الأخلاقية والقيمية الغربية، بعدما وصل الأمر أحياناً إلى حد التواطؤ الصريح مع دعم بقاء هذه الأنظمة السلطوية ضد قيم ومبادئ الحرية والديموقراطية كما كانت الحال في تونس حين عرضت وزيرة الخارجية الفرنسية ميشيل إليو ماري تدريب قوات الشرطة التونسية لقمع المتظاهرين. سابعاً: أسقطت هذه الثورات مقولة الاستثناء العربي من الديموقراطية. وهي مقولة مستفزة روّجتها، ولا تزال، بعض النخب العربية الحاكمة ونسجت على منوالها نخب غربية ومؤسسات أكاديمية وبحثية كانت تتشدق كثيراً بأطروحة التقابل الحتمي بين الإسلام والديموقراطية، وبين الثقافة العربية والطلب على الحرية... إلخ. الآن سقطت هذه المقولات والكليشيهات التي أغرقنا بها المستشرقون وظلموا بها شعوبنا وأمتنا العربية والإسلامية. وباعتقادي أن ما يحدث الآن في العالم العربي سيعيد تشكيل طرق ومناهج البحث في النظم السياسية وتجارب التحول الديموقراطي في العالم العربي. وأخيراً، فإن انفجار الثورات العربية على هذا النحو المثير قد يبدو كافياً وشافياً لفهم ما حدث للمجتمعات العربية خلال نصف القرن الماضي، وما اقترفته أنظمة ما بعد الاستقلال من خطايا في حق شعوبها. فقد تم تغييب وتهميش العقول والثقافة العربية لمصلحة بناء دولة الفرد الواحد والنظام الواحد تحت شعار الحلم الواحد، فكانت النتيجة هي أنظمة سلطوية أحادية لا تقبل الخروج من السلطة أو المشاركة فيها، وإذا قرر الشعب أن يعترض أو يثور يجرى ضربه بالرصاص وقنابل الغاز والطائرات الحربية من دون شفقة. المدهش في ما يجري الآن، هو أن سيناريو الثورات العربية يكاد يمر من الطريق نفسه (تماماً مثلما مرّ من قبل سيناريو الاستبداد والتسلط على مدار نصف قرن). فهو يبدأ بتظاهرة محدودة جغرافياً وعددياً، سرعان ما تكبر مثل كرة اللهب بسبب همجية ووحشية قمع المتظاهرين، فتتحول المسألة إلى حالة ثورية تعمّ كل أرجاء البلد، ثم تبدأ عمليات الكرّ والفرّ بين الثوار وأجهزة النظام، وبعد الفشل في قمع الثورة تتم الاستعانة بالجيش من أجل إجهاض الثورة، فإما أن يصمت الجيش أو ينحاز الى أحد الطرفين، وفي الغالب لمصلحة الشعب كما حدث في مصر وتونس وفي الغالب ليبيا. وعلى المسار السياسي يبدأ النظام بتقديم التنازلات بطرق ملتوية ولغة مختلفة مضمونها واحد وهو الاستعداد للتفاوض وإعطاء الوعود بالتغيير والإصلاح. يُصاحب ذلك أمران: أولهما استدعاء فزاعتي المؤامرة الخارجية التي تستهدف البلاد ووثوب الإسلاميين على السلطة، وثانيهما العمل على عزل الشعب كلياً عن العالم الخارجي حتى يتم الاستفراد به وتهذيبه، وفي النهاية يفرّ الحاكم ويترك مقعده. السؤال الآن لم يعد يتعلق بمن سيثور غداً، وإنما بالأحرى من سيترك السلطة من دون أن يوقع ضحايا من أبناء شعبه، على غرار ما حدث في تونس ومصر وليبيا؟ فقد بدأ فعلياً العدّ التنازلي للدولة السلطوية العربية، وذلك بعد أن عرفت الشعوب العربية طريقها نحو الحرية وباتت مستعدة للوصول إليها مهما كان الثمن، رافعة شعارها المأثور «الشعب يريد إسقاط النظام». * أكاديمي مصري - جامعة دورهام، بريطانيا