بعد مرور حوالي خمسة أشهر على ثورة مصر المجيدة، لا زال البعض يمنون أنفسهم بأنها حركة احتجاجية في طريقها إلى الزوال، وأن الأمور ستعود كما كانت بقليلٍ من الانفلاتات الأمنية المفتعلة، وبعضٍ من عمليات البلطجية المتغاضى عنها عمداً، وهؤلاء لن يغيروا طبيعتهم الموروثة من عهود القهر والعبودية، فهم من ناحية لا يصدقون أبداً أن هذا الشعب قد تمكن من كسر حاجز الخوف إلى الأبد، ولا يتخيلون أن شباب الوطن استطاعوا هزيمة أساطين القوة والجبروت بثورة سلمية أشاد بها العالم وتعلم منها شباب دول متحضرة أسمى دروس الوطنية. وفي الوقت الذي نالت فيه الثورة المصرية إعجاب وتقدير معظم شعوب الأرض، تكاتفت ضدها مجموعات من أصحاب المصالح الشخصية من ذوي النفوذ والسلطان، كرهوها منذ البداية كراهية التحريم، وناصبوها العداوة ونفثوا في طريقها ما استطاعوا من سموم وحقد أثيم، فمن اللحظة الأولى لبزوغ فجر الثورة وهم يقفون لها بالمرصاد وجابهوا شبابها بكل ما منحتهم السلطة من وسائل القتل والتعذيب فحاربوا معركتهم الأخيرة التي استعملوا فيها جميع وسائلهم القذرة، ولسوء حظهم أن العزيمة الثورية لم تنكسر، وساندها الشعب بكل قوته، وكما قال الأعداء قبل الأصدقاء أن الشعب المصري في هذه الثورة كالمارد الذي خرج من القمقم ومن الصعب إعادته إليه. إن النظام القاسي الذي ثار عليه شعب مصر كان يعتمد على وسيلتين لاستمراره، والحفاظ على استقراره، وضمان سيطرته على مقدرات الوطن، وهما جهازي الإعلام والأمن، وهذان الجهازان كانا جزءاً لا يتجزأ من النظام ووجودهما أو زوالهما وقفاً على وجوده أو زواله، وبواسطتهما ومن خلالهما قام النظام بجميع أعماله التي لم تكن في صالح الوطن ويُصنف بعضها بجريمة الخيانة العظمى. ولن يكون مبالغاً فيه القول أنهما كانا يمثلان ذراعي حماية الفساد والمفسدين في النظام البائد وما نتج عنه من خسائر وسرقات لأموال الشعب بلغت المليارات، في الوقت الذي لم يكن يجد فيه المواطن البسيط ما يسد به رمقه من مأكل، وما يستر به جسده من ملبس، وما يحمي به بدنه من المرض، وما يحفظ به وجوده من مسكن، ولذلك فلم يكن غريباً ما ارتكباه من جرائم في حق الوطن والمواطن وهما يتمتعان بالحماية المطلقة من رأس النظام ورموزه. فجرائم الجهاز الأمني تركزت في إهدار الكرامة الإنسانية للمواطن وإذلاله وتعذيبه وقتله في معظم الأحيان، لإشاعة الخوف بين أفراد المجتمع، وجرائم الجهاز الإعلامي تمثلت في الإفقار الثقافي وإفشاء الفنون الهابطة عملاً على تجريف عقل المواطن المصري من ملكاته الفكرية والإبداعية، وتشكيل وعي عام قاصر عن رؤية الوضع المتردي الذي يسير إليه الوطن، والترويج للتفاهة وعدم الجدية، وتغذية الصراعات الطائفية، واختلاق العداوات مع بعض الدول العربية واستحضار التعصبات الرياضية عملاً على إشغال الشعب وإلهائه عن فساد حكامه. والآن، وبعد أن تمكن الشعب من إزاحة جلاده وكبار رموز فساده، ماذا بقي من ذراعاه اللذان كان يعتمد عليهما؟
السؤال تجيب عنه الأحوال، فالجهاز الإعلامي ناصب الثورة العداء منذ البداية وما زال، ولذلك فقد حظي بتغييرات سطحية تبتعد عن العمق، وهي المتمثلة في استبدال قيادات بعض الصحف والمجلات التي حاولت السير في خط جديد علها تتمكن من أن تتبرأ من الماضي بالعمل على فضح فساده بالمقدار الذي يحدث فرقعة دون أن يؤدي إلى نتيجة، إلا أن البعض منها ما زال ممسكاً للعصا من منتصفها ويحاول استعداء الشعب ضد الثورة بأسلوب غير مباشر بالتركيز على الخسائر الاقتصادية التي لحقت بمصر بسببها. كما تم استبدال قيادات ماسبيرو الذي يتكدس به قوة عاملة قدرها ثلاثة وأربعون ألفاً، وهي تمثل عبئاً ثقيلاً على التطوير، وتعيق أي انطلاقة لإعلام حقيقي يمكن من خلاله إعادة تشكيل ثقافة مواطن ما بعد الثورة، وما يتطلبه ذلك من أفكار جديدة تتناسب مع الواقع المأمول، وهذا أمر بالغ الصعوبة نظراً لمشاركة هؤلاء العاملون في الخطايا الإعلامية التي كانت تمثل النظام السابق، وتبعيتهم المادية والنفسية له، ومقاومتهم الطبيعية لأي محاولة لتغيير نمطهم وسلوكهم. ولكن في المجمل هناك محاولات ظاهرية لوضع الجهاز الإعلامي على بداية الطريق، وبالقطع ذلك يتطلب الوقت والجهد والمال، هذا هو ما تبقى من الذراع الأولى للنظام السابق. أما الجهاز الأمني فقد تعرض لهزيمة لم يكن يتوقعها أشد الناس تفاؤلاً بقدرات الشعب، إلى الحد الذي شبهها البعض بنكسة 1967 التي أصابت الجيش، مع الفارق الكبير بين مشاعر الحب الجارف التي احتوى بها الشعب أبنائه من الجيش واحتضانه لهم وتضميد جراحهم فنهضوا أقوى مما كانوا، وبين مشاعر الكراهية والغضب التي يكنها الشعب للجهاز الأمني ومن يعمل فيه على كافة المستويات، فشتان بين من يدافع عن الوطن والمواطن ويفتديهما بدمه وروحه ويرفض إطلاق الرصاص عليه، وبين من يفتك به، ويهين كرامته، ويحظ من كبريائه، ويحطم إنسانيته ويقتل أبنائه وبناته ويدهسهم بسياراته بلا رحمة، خلال الثورة على الظلم. وعلى الرغم من أن الجيش والشرطة يتكونان من أبناء هذا الوطن، إلا أن معظم إن لم يكن كل ضباط وجنود الجيش يمثلون الابن البار بأهله، بينما بعض إن لم يكن أغلب ضباط وأمناء وجنود وأفراد الشرطة يمثلون الابن العاق الذي أرهق أهله وأذلهم وأهانهم ولم يرحم توسلات من يقع منهم تحت يداه القاسيتين المتجبرتين، وهنا تكمن المشكلة، فليس من السهل على الأب أن يتخلى عن أحد أبنائه بسبب عقوقه، أقصى ما يستطيع الأب عمله أن يدعي له بالهداية، ولكنه بالتأكيد غير راضٍ عن تصرفاته ويخشى عليه من انتقام السماء الذي قد يتأخر لإتاحة الفرصة لمن أراد التوبة، إلا أنه آتٍ لا محالة. وما بين الاستجابة لدعاء الأب، وتحقق الانتقام الإلهي مساحة كبيرة من الاستعلاء وعدم رغبة في التنازل عن مراكز قانونية وأدبية ومالية تحققت لرجال الأمن، وشعور بالخزي والعار أدى إلى قناعة البعض بضرورة الانتقام من الشعب، وشغفهم لتحقيق ذلك، الأمر الذي أدى إلى ظاهرة البلطجة والانفلات الأمني، وهروب السجناء من السجون والأقسام، واعتداء بعض طلاب كلية الشرطة على أحد الطلاب أثناء تواجده في سرادق الامتحانات بجامعة القاهرة، وسحل مواطن حتى الموت في أحد أقسام القاهرة، وسحل مواطن وتجريده من ملابسه والعبث الجنسي بجسده وإجباره على تقبيل حذاء أحد المجندين، وإطلاق ضابط الرصاص على عين أحد الطلاب في الإسكندرية، وغير ذلك الكثير من الاعتداءات التي لم يتم الكشف عنها، ولا ننسى القصيدة التي كتبها أحد طلاب كلية الشرطة يسب فيها الشعب ويتوعده، وأخيراً وليس بآخر إصابة أكثر من ألف ومائة متظاهر في ميدان التحرير بشتى أنواع الإصابات جراء إطلاق الغازات المسيلة للدموع والرصاص المطاطي والخرطوش عليهم وكأنها تجربة عملية بعد دراسة أسباب الهزيمة الأولى. وهذا هو ما تبقى من الذراع الثانية للنظام البائد. من الواضح أن الذراعين أصابتهما إعاقة كبيرة لم تكن متوقعة، ولكنهما يحاولان التماسك، وبالتأكيد الجهاز الإعلامي سيتعافى لأنه لا يبحث عن الانتقام بقدر ما يكافح للنهوض من الكبوة النفسية التي يعيشها جراء تغيير المناخ العملي، فمن اعتاد أن يكون تابعاً للسلطة طوال ثلاثين عاماً مكرساً كل فكره وقلمه لخدمتها، سيكون من الصعب عليه أن يغير هذا النمط حتى وإن أراد، لأن العمل الإعلامي ما هو إلا إنتاج وإبداع فكري وذهني ينتج عن القناعات الشخصية والمبادئ والقيم الإنسانية، وبقدر وضوح أو غموض القناعات الشخصية، وصدق أو كذب المبادئ والقيم ستتحدد نتائج التغيير في الذراع الإعلامي. أما الجهاز الأمني، فمن الواضح أنه لن يتخلى مطلقاً عن فكرة الانتقام والثأر من الشعب، فالمسألة بالنسبة لرجال الأمن أكثر تعقيداً لارتباطها بعدم الفصل المتعمد بين هيبة الدولة وهيبة الشرطة، ولذلك ففكرة الالتزام بالقانون تؤرقهم وهم الذين لم يعتادوها في جميع الأحوال، وللأسف رسخ النظام السابق هذا السلوك لديهم إلى أن تلبستهم قناعة بأنهم أسياد هذا الشعب وأنهم فوق أي محاسبة، وهذا الأسلوب ما زال سارياً حتى الآن ونتيجته أن جميع الضباط الذين قتلوا المتظاهرين يمارسون عملهم بصورة أكثر من طبيعية ولا يظهر في الأفق أن هناك نية لمحاكمتهم، وحتى وزيرهم وكبار رجاله تتأجل محاكمتهم عمداً لإتاحة الفرصة لشيء ما يتم التخطيط له بليل. عموماً من الواضح أن سلوك جهاز الأمن لم ولن يتغير، والشعب بعد 25 يناير لن يقبل ذلك بعد أن كسر حاجز الخوف وللأبد، واقترب من تحقيق حلمه الغالي باسترداد كرامته، ومع إصرار بعض رجال الشرطة على الثأر من الشعب، وحرصهم على وأد حلم عودة كرامة المواطن، فلن يكون أمام المجتمع إلا نبذهم تماماً ومقاومتهم بشتى الوسائل، ولن يعدم الشعب وسيلة لاسقاط كل جبار واستبداله، فالثأر من ثمانين مليون مصري ما هو إلا ضرب من ضروب الخيال، وهي معركة خاسرة بلا شك، والاستمرار في التخطيط لها لن يزيد الأمور إلا سوءاً، ولن يكون في صالح هذا الجهاز بالتأكيد، فالشعب هو الباقي فوق الجميع لإنه هو صاحب السلطة وصاحب الوطن. أفيقوا، فقد خرج المارد من القمقم، ولن يعود إليه، ومن يريد إعادته فليتحمل نتيجة سوء عمله. عادل الجوهري - محامي ميدل ايست أونلاين