طبيعة فهم الجيل الرقمي الجديد تختصرها قصة مصر في ثلاثة عقود ولست مبالغاً إن قلت إن الفارق بين نقطتين زمنيتين في مستهل ونهاية هذه العقود الثلاثة يشابه الفارق التقني الهائل بين عصرنة اللحظة وبين ما كان هذا العالم عليه قبل قرون ثلاثة خلت. تسنم الرئيس المصري السيد حسني مبارك ذروة أهرام مصر قبل ثلاثين عاماً صباح حادثة المنصة. كانت مصر يومها تفاخر أنها البلد العربي الوحيد الذي يبث إرساله التلفزيوني عبر قناتين وبالشواهد نفسها فإن نصف مساحة العالم العربي يومها لم يكن بها أي تغطية للإرسال التلفزيوني. نقلت حادثة المنصة إلى العالم يومها عبر كاميرا تلفزيونية واحدة لأن الصدفة نفسها هي من قادت أيمن كمال مصور التلفزيون المصري، إلى الوقوف برباطة جأش لدقيقتين ثم هرب وترك الكاميرا من هول المشهد. كانت الفرصة الوحيدة لأن تشاهد مسرح الحادثة في مصرع الزعيم المصري السابق ليس إلا بضع ثوان شاردة في نشرة الأخبار الرسمية ولربما شاهدها جيلي المراهق آنئذ مرة واحدة على نشرة رسمية يوم كان قرار ما نشاهد وما نسمع أو نقرأ بيد وزراء الإعلام. ثلاثون عاماً انتهى فيها الجيل القديم الذي كانت نواة تشكيله الجمعي مسلسلات الساعة العاشرة في شاشة اللونين الأبيض والأسود. ما بين فقر المعلومات في حادثة المنصة وحشد المعلومات الهائل في ميدان التحرير يولد جيل جديد من أطفال المسلسل الكرتوني أبطال الديجتال جيل رقمي مذهل تتنازعه العولمة وتلغي فيه كل فوارق التلقين والحشد المعلوماتي. اليوم نحن نشهد نهاية الأحزاب والمنظمات التقليدية وولاء القبائل إلى صالح المشترك المعلوماتي الإنساني الجديد. منظمات المجتمع المدني الجديد هي الفيسبوك وتويتر، هي الآي فون، والآي باد وبلاك بيري واليوتيوب. هي المجتمع الإلكتروني الذي ألغى قناة الدولة الرسمية لصالح آلاف المحطات الفضائية التي يدخل بها شاب اليوم إلى دورة المياه ومعه جهاز الآي باد ولاقط الواي فاي وكل تلك الأسماء الأعجمية التي تركت هذه المسافة الرقمية المذهلة بين جيلين في أقل من ثلاثة عقود. اليوم يقف وزراء الإعلام في كل مكان بالدنيا حرس نجاة على شاطئ من ألف كيلو متر من سيل هذه المعلومات الهائلة. نحن نقطف أو نحن حتى جناية المسلسل الكرتوني – أبطال الديجتال – حيث هم يتحركون إلى كل جهات الدنيا ومعلوماتها وأبعادها عبر الأزرار. لم يعد للأنظمة الثقافية والسياسية ما يمكن أن تعمله لأن يعود زمن الشاشة الوحيدة وعصر اللونين الأبيض والأسود. اليوم يرشدني أطفالي الصغار إلى خريطة هذه المدينة الأجنبية التي عرفتها من قبل وهم مازالوا في صلبي ويأخذونني إلى دهاليزها عبر أزرار تلوكها أصابعهم على الأجهزة التي لا أعرف منها حتى الأسماء. هذه الأجهزة ما بين أيديهم هي مؤسسات المجتمع المدني البديلة الصارخة. لم تعد الحكومة ولا النظام هما ضابط المعلومات. في حادثة المنصة كانت الحكومة من يملك الكاميرا الوحيدة مثلما كانت من يكتب عناوين نشرة أخبار المساء. أما في ميدان التحرير فإن شباب الجيل الرقمي يتواصلون مع العالم بأسره ويتصل بهم عبر عشرات الوسائط بمئات الآلاف من الأجهزة. وحتى عندما تحاول الحكومة عبثاً وقف هذه الخدمات كانت البدائل لا تستغرق ثواني معدودة، المنظومة الحزبية البديلة اليوم هي حزب الفيسبوك وجهاز التعبئة المعنوية البديل هي رسائل الجوال، وبدلاً من الكاميرا الوحيدة الرسمية الحكومية في حادثة المنصة تستقبل مئات الفضائيات حول الأرض إرسال آلاف المشاهد من قلب الميدان حيث يستطيع كل متظاهر هناك أن يكون أيمن كمال وأن يبعث بمشاهداته المباشرة ببضعة أزرار على جهاز جيب. مؤسسة المجتمع المدني البديلة اليوم هي (تويتر) حيث الاجتماع لم يعد بحاجة إلى صالة أو مقر حزبي. زعيم الحزب اليوم هو بضعة أزرار بيد أجيال تفوق مسافة تفكيرنا العقلية القديمة بثلاثة قرون ضوئية. انتهى زمن صحافة الصباح الرسمية التي ترسم أو تحاول احتكار الوعي الاجتماعي: بضع كلمات مختارة على جهاز الآي باد تنقل الملايين من الجيل الرقمي إلى الاستعلام عن كل ما استعصى أو حار به العقل. ثلاثون عاماً انتهت معها أن يكون بواب العمارة مصدر المعلومة أو أن يكون فيها رب الأسرة مصدر التوجيه، وفي العالم العربي وحده فإن زبائن هذه الأسماء الأعجمية من الفيسبوك وانتهاء بالبلاكبيري مروراً بكل ما بينهما وفي اليوم الواحد يفوق كل سكان العالم العربي بالنصف. ومرة أخيرة: قارنوا هذا الاحتشاد المعلوماتي الهائل بيوم حادثة المنصة حين كانت نصف المساحة العربية بلا تغطية تلفزيونية لأيام الشاشة الوحيدة.