دعا باحث شرعي وقانوني سعودي إلى المبادرة في تقنين وتنظيم عقوبات التعازير عموما، وفي نطاق جرائم الحدود والقصاص بصفة خاصة في القضاء السعودي. وشدد الدكتور شاكر بن مقبل العصيمي في توصيات رسالته للدكتوراه بعنوان «تقنين العقوبات التعزيرية لجرائم الحدود والقصاص ودوره في تحقيق العدالة»، على أن التقنين يدور على مبدأين مهمين ومعتبرين في الشريعة الإسلامية، وهما: مبدأ حق ولي الأمر في تقييد المباح، ومبدأ حق ولي الأمر أيضا في رفع الخلاف، وكل ذلك في داخل ولايته وإقليمه. وطالب الدكتور العصيمي في الرسالة التي نال عليها درجة الدكتوراه من جامعة نايف للعلوم الأمنية، ب«تشكيل لجنة مكونة من نخبة من الفقهاء والقضاة المجتهدين تقوم على تقنين العقوبات التعزيرية، ومراجعة التقنين بشكل دوري للتعديل والتطوير». وأوصى الباحث الذي يعمل مديرا لوحدة كراسي البحث العلمية المتعلقة بالحسبة، بضرورة تناول المتخصصين في مجال التشريع الجنائي الإسلامي مسائل تقنين التعازير بالبحث والتمحيص والتعمق، وإثراء البحث في كل جريمة من جرائم الحدود والقصاص على حدة. وأشار إلى أهمية قيام الجهات القضائية العليا بإعداد وتنفيذ برامج تدريبية تأهيلية تزيد من كفاءة القضاة في أساليب وطرق تقدير العقوبات التعزيرية عموما، وفي تعازير جرائم الحدود والقصاص خصوصا، وقال: «لعل التوجيه السامي الصادر حديثا والقاضي بإنشاء معهد للتدريب العدلي خطوة في سبيل تحقيق هذه التوصية». وطالب الدكتور العصيمي أيضا بتفعيل متابعة الأحكام القضائية ومحاولة الحد من التباين الكبير فيما بينها، مع مراعاة التنويع في العقوبات بما يحقق المصلحة منها. ونوه الباحث إلى «ثبوت صلاحية الأحكام الشرعية القضائية وفاعليتها رغم تغير الزمان والمكان، وذلك لأنها جاءت من لدن حكيم خبير، وهو الأعلم بما يصلح شؤون خلقه، ولذا جاءت الشريعة بأحكامها على نوعين». وبين أن النوع الأول يشمل أحكاما ثابتة لا تتغير بحال، ومن ضمنها أحكام الحدود وعقوباتها، فهي ثابتة ومقدرة، فلا يجوز إسقاطها أو تخفيفها أو العفو عنها، وقال: «من الأحكام المقدرة أيضا أحكام القصاص والديات فهي عقوبات غير تفويضية، وإن كانت تفارق الحدود من حيث جواز إسقاطها والعفو عنها ممن يملك الحق في ذلك، وهو المجني عليه أو ولي دمه». وأضاف: «أما النوع الثاني من الأحكام الشرعية فهي أحكام متغيرة بتغير الزمان والمكان، وهي داخلة في نطاق الجزء المرن من الشريعة الإسلامية الذي يراعي الظروف المحيطة، ومنها أحكام التعزيرات». لافتا إلى أن هذه الأحكام «هي عقوبات غير ثابتة، وغير مقدرة أيضا، فوضها الشارع لولي الأمر لإقامتها وفق المصلحة، حيث إن السلطة فيها تقديرية؛ ولأن الحاجة قائمة لتحقيق المصلحة للأمة بأيسر السبل». وأوضح الدكتور العصيمي أنه يقصد بالتقنين بوجه عام جمع الأحكام والقواعد التشريعية المتعلقة بمجال من مجالات العلاقات الاجتماعية، وتبويبها وترتيبها، وصياغتها بعبارات آمرة موجزة واضحة في بنود تسمى (مواد)، ذات أرقام متسلسلة، ثم إصدارها في صورة قانون أو نظام تفرضه الدولة، ويلتزم القضاة بتطبيقه بين الناس. وأشار إلى أن تقنين الفقه الإسلامي يقصد به تطبيق طريقة التقنين على الأحكام المأخوذة من مذهب واحد، فإذا كان في المسألة الواحدة أقوال متعددة ضمن المذهب، يختار واحد منها. وقال: «يمكن أن يقصد بتقنين الفقه أن تستمد الدولة تقنيناتها في مختلف الموضوعات من الفقه الإسلامي بمفهومه العام، أي من جميع المذاهب المعتبرة، ومن آراء فقهاء الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المجتهدين الذين نقلت آراؤهم في كتب اختلاف الفقهاء، ولم تدون لهم مذاهب كاملة في جميع أبواب الفقه ومعاملاته». عشر إيجابيات وخمس سلبيات وقدم الباحث عرضا لإيجابيات وسلبيات التقنين، كما يراها فريقا المؤيدين والمعارضين له من الفقهاء المعاصرين. وعدد في هذا السياق عشر نقاط إيجابية للتقنين، تشمل: سهولة التعرف على الأحكام القانونية بعد جمعها في مدونة واحدة «وفي هذا فائدة عظيمة للقضاة والمتقاضين وجميع المشتغلين بالقانون، بل ولعامة الناس؛ ليبني تصرفه على معرفة بالنظام الذي يحكم معاملاته». وأشار إلى أن من إيجابيات التقنين المعدودة أيضا «رفع التوهم الذي قد يطرأ على الإنسان من أن الشريعة ناقصة أو متناقضة، أو أن القضاة الشرعيين يحكمون بالهوى، وذلك لما قد يلمسه المتوهم من تناقض للأحكام وتباين واضح في العقوبات التي توقع على جرائم متماثلة»، والخروج من التحكمية القضائية لقاضي الموضوع، الذي كون حصيلته العلمية وخبراته بناء على ثقافته وقناعاته الشخصية في الموضوع المطروح أمامه «إذ يجعله النص أسيرا له، أو قد يمنحه سلطة تقديرية محدودة». ولفت إلى أن ضعف الاجتهاد القضائي وأدواته عند البعض من القضاة من المسوغات الضرورية لتقنين الأحكام التعزيرية، ذلك أن التقنين يكون بمثابة مرجع للتيسير عليهم، لا سيما وأن مرفق القضاء يعاني من قلة عدد القضاة وبالمقابل كثرة الخصومات والقضايا المنظورة. وأكد أن التقنين يؤدي إلى الاستفادة القصوى من الآراء الفقهية المتنوعة، حيث سيعمل على استخلاص أفضل الآراء وفقا للوضع السائد للمجتمع وبما يناسب الزمان والمكان ك«بديل للانكفاء على آراء مدرسة فقهية معينة بنت آراءها على واقع قد تغير الآن، وهو ما سيعطي العالم صورة حقيقية عن سعة الفقه الإسلامي وصلاحيته لكل زمان ومكان». كما لفت إلى حاجة المستجدات إلى أحكام شرعية يجري تقنينها، لأنه ليس من الحكمة تركه لاجتهاد القضاة ل«كثرة شواغلهم وعدم تفرغهم للبحث والاستقصاء والاجتهاد في كل مستجد، خصوصا مع التطور المتسارع الذي يعيشه العالم اليوم». واعتبر أن التقنين يلبي حاجة الناس إلى معرفة ما يرجع إليه القاضي تفصيلا، وفي ذلك تسهيل للتقاضي والترافع، من مسوغات العمل بالتقنين صعوبة لغة الكتب الفقهية القديمة ذلك أنها كتبت بلغة عصرها، وهذا يحتم إعادة صياغتها بلغة تناسب العصر الذي نعيشه. وفي المقابل، عرض الباحث خمسة من عيوب وسلبيات التقنين يحتج بها فريق المعارضين له، وأولها أن القرآن الكريم «أمر بالحكم بما أنزل الله وهو الحق، والحق لا يتعين بالراجح من الأقوال، لأنه راجح في نظر واضعيه دون سواهم فلا يصح الإلزام به ولا اشتراطه على القضاة». وأشار الدكتور العصيمي إلى الرأي القائل بأن الواجب هو الرجوع إلى حكم الله ورسوله، ولا يتعين حكم الله ورسوله في مذهب معين ولا في قول مرجح، والحكم بالرأي الراجح إن خالف اعتقاد القاضي بأنه حكم الله ورسوله فإنه يحرم قضاؤه به، ويلزم منه منع التقنين، بحسب رأي المعارضين. ولفت إلى رأي المعارضين القائل بأن تقنين الأحكام على الوجه المقترح لإلزام القضاة الحكم به ليس طريقا للإصلاح، فهو لا يقضي على الخلاف في الأحكام، ولا يحل إشكالية اتهام القاضي «لأن اتهام القاضي في حكمه لم يسلم منه حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال له بعض الأعراب (اعدل يا محمد فإنك لم تعدل)». كما لفت إلى استنادهم إلى أن «الدول التي تعمل بالتقنين دونت قوانينها على هيئة مواد موحدة مسلسلة الأرقام، ومع ذلك اختلفت أحكام قضاتها ووقع في بعضها التناقض والخطأ، وعليه لم يكن ذلك التقنين مانعا من الخطأ والتناقض واتهام القضاة ونقض الأحكام، بل ونقصها في حالات غير قليلة». وعرض كذلك الرأي المعارض القائل بأن التقنين يلزم منه جمود العقوبات التعزيرية وعدم مواكبتها للتغيرات التي تحدث في المجتمعات وما ينشأ عنها من تزايد ملحوظ للجرائم، والتقنين بطيء التعديل، حيث يمر بمراحل ومستويات متعددة حتى يتم إقراره أو تعديله. جواز التقنين.. لماذا؟ وانحاز الدكتور العصيمي في بحثه إلى جواز التقنين والإلزام به، وذلك لأسباب عدة، أبرزها وجاهة وكثرة الأدلة والتعليلات التي استدل بها القائلون بجواز التقنين والإلزام به «والتي عرضها تفصيلا في بحثه»، وقلة عدد القضاة في الزمن الحالي مع قلة وجود المجتهد منهم، وهو ما يسبب تراكم القضايا وتأخير البت فيها والمماطلة في إنجازها. وأوضح الباحث أنه استجدت في الواقع المعاصر ظروف تقتضي إعادة النظر في النظام القضائي، ليكون هذا النظام أكثر ضبطا ووضوحا بالنسبة للقاضي، وكذلك للمتقاضي الذي لا يمكن إحالته إلى مجموعة من كتب الفقه المذهبي أو المقارن، مؤكدا أنه «يمكن أن يراعى في التقنين ترك مساحة واسعة للاجتهاد والتقدير». وأضاف: «غير أن تقنين التعازير في جرائم الحدود والقصاص قد تكون له خصوصية تميزه عن تقنين بقية التعازير، ذلك أن الشرع قد قيده بقيود وضوابط شرعية، من أبرزها أن لا يبلغ التعزير إلى حد العقوبة في جنسها». إلا أن الباحث يرى ضرورة التفريق بين العقوبة الحدية التي فيها قتل أو قطع وبين التي لا قتل فيها ولا قطع، ومراعاة ذلك عند التقنين. التقنين.. سياسة شرعية رأى الدكتور شاكر العصيمي أن موضوع الخلاف بين المؤيدين والمعارضين للتقنين هو استمداد الأحكام التي لم ترد في شأنها نصوص خاصة من مصادرها الشرعية المعتبرة، وصياغتها على شكل مواد قانونية، واعتبار هذه المواد مرجعا للأحكام، وإلزام الدولة المكلفين بها، وإلزام القضاة بالحكم بموجبها وعدم مخالفتها، ونقض حكم القاضي إذا خالفها. ومن هذا المنطلق، يرى أن التقنين في هذا الباب يعتبر من السياسة الشرعية التي تعد من أهم أدوات ووسائل حفظ وحماية المقاصد الشرعية، وقال: «إذا تعين أن التقنين داخل في السياسة الشرعية، فإنه ينبغي أن ينظر إليه على أنه جزء من التدابير والأحكام التي تنظم بها مرافق الدولة في تدبير شؤونها، مع مراعاة أن تكون متفقة مع روح الشريعة، نازلة على أصولها الكلية، محققة لأغراضها الاجتماعية، ولو لم يدل عليها دليل جزئي من النصوص التفصيلية الواردة في الكتاب والسنة». وأضاف: «يشمل ذلك جميع ما يقوم به ولاة الأمور من تدابير لتحقيق مصالح الناس دون تقييده بمجال دون آخر مما لم يرد فيه نص، فيكون التقنين ضمن سياسة الرعية، والقيام بما يصلحها». وزاد: «لعل تحديد الجرائم التعزيرية وتنظيم العقوبات لها، وما تعلق بأمن المجتمع من شؤون، وما تطلبه من أحكام هي أكثر أهمية من أي مجال يمكن أن نجوز التقنين فيه؛ لأنها أهم أبواب السياسة الشرعية، وأخطرها إن لم تسد على الأمة». جرائم متشابهة.. وأحكام متباينة أشار الدكتور شاكر العصيمي إلى أن النظام الجنائي السعودي لم يتطرق إلى تنظيم العقوبات التعزيرية في جرائم الحدود والقصاص، الأمر الذي قد يكون سببا في تباين الأحكام القضائية في تلك الجرائم، أو تجاوز بعضها الحد في جنسها. وعرض في بحثه لنماذج للتباين في الأحكام التعزيرية من واقع قضايا تطبيقية في جرائم الحدود، صدرت أحكامها من المحكمة الجزائية بمدينة الرياض خلال العام 34 / 1435ه، أي في فترة زمنية متقاربة، راعى فيها أن تكون التطبيقات في عقوبات حدية ذات حد أعلى، وهي جرائم زنا غير المحصن، والسكر، وأن تكون كذلك من محكمة واحدة. وتضمنت هذه القضايا أربعة تطبيقات قضائية من قاض واحد، في جريمة زنا غير المحصن وما يتعلق بها، وكذلك أربع تطبيقات قضائية من قاض واحد أيضا، في جريمة السكر وما يتعلق بها، إضافة إلى تطبيقين قضائيين من قاض ثالث في نفس المحكمة، أحدهما في زنا غير المحصن، والآخر في السكر. وبعد عرضه لتلك النماذج، لاحظ الدكتور العصيمي تباين الأحكام في تلك القضايا، بما فيها الأحكام الصادرة من قاض واحد، فضلا عن تباين الأحكام الصادرة بين قاض وآخر. وقال تعليقا: «يتبين أن تقنين العقوبات التعزيرية في جرائم الحدود والقصاص أمر ملح يتطلب عناية فائقة مع الإسراع والتدارك في ضبطه، حماية للقضاء من التهمة والانتقاص منه، واضطراب الأحكام، وتباين الاجتهاد في العقاب التعزيري، خصوصا في القضايا المتشابهة أو المتماثلة في جملة ظروفها وملابساتها، كما تشكل حماية للمتهمين وأطراف الخصومة الجنائية، وضمانة لعدم الحيف في العقاب، وتحقيقا للعدالة، والحد من التباين الكبير في الأحكام القضائية، ومن الأهمية بمكان أن إعلانها في صورة نظام يحقق المنع النصي، فيرتدع من تسول له نفسه الإقدام على تلك الجرائم. أخبار 24