القَضَاءَالعَادِلَ مَطْلبٌ مُلِحٌ تنشدُهُ الأُمَمُ، عَلَى اخْتِلافِ مَشَاربهاوَنِحَلِهَا، والعَدْلُِ - عُرْفَاً - وَصْفٌ نِسْبيٌ؛ فَلِكُلِّ أُمَّةٍ هُويَّةٌوَرُؤْيَةٌ، وإنْ ضَلَّتْ ببعضها السُّبُلُ .وَقَدْمَثَّلت القَوانينُ الوَضْعيَّة أسَاسَاً للأقضيَّة في سَوَادِ الدُّول،وبتأمُّلِهَا نجدُ منها ما هُو حقٌّ لَهُ أصلٌ في شَرْعِنَا، ومنها مَاْ هُوبَاطلٌ، لا نحْكُمُ ببطلانه وَحْدَنا، فهُنَاكَ مَنْ يشاطرنا الرَّأي حَوْلَهُ،وَهُوَ ما نجدُهُ في العَدِيْدِ مِن النَّظَريَّات القانونية بكافة اتجاهاتها؛فالقانونُ لا يعني خُطَّةً وَاحِدَةً، تَسِيْرُ عليها الدُّوَلُ، بَلْ قَاعِدَةٌعَامَّةٌ تَنْطَوي تحتها نظرياتٌ عِدَّةٌ، ولهُ مَبَادئُ لمْ تَسْلمْ من الجَدَلِالعِلْمِيّ.وشَرْعنا المُطَهَّر لا يقفُ ضدَّ هذهالأنظمة، ما لم تُخالفْ هَدْيَهُ، وَنَسْعَدُ بالحِكْمَةِ أياً حَطَّت ركابها، فهيضَالة المؤمن أنَّى وَجَدَهَا فَهُو أحق بها، ولذلك أصدرت الدَّولةُ العديدَ منالأنظمة؛ لتسيير مرافق إداراتها ، في مشمول المَصَالح المُرْسَلة، وهي عندالتحقيق:"كلُّ منفعةٍ مُلائمةٍ لتَصَرُّفَاتِ الشَّارع ، دُوْنَ أنْ يَشْهَدَلها بالاعْتِبَارِ أَوْ الإلغاءِ أَصْلٌ مُعَيَّن، لَكِنْ شَهِدَ لهَا أَصْلٌكُلِّيٌّ كَقَاعِدَةِ: رَفْع الحَرَج ، وَنَفْي الضَّرَر"، وَتُسَمَّى: (المناسب، المرسل،الملائم، الاستصلاح), ولايُتَصَورُ تَعَارضُ أَدِلَّةِ الشَّرْع مَعَ المَصَالحِ الرَّاجحة، إِذْ لا يتأتىنهيُ الشَّارع عَمَّا مَصْلَحَتُهُ راجحةٌ أو خَالِصَةٌ، ولا أَنْ يَأْمُرَ بمامَفْسَدَتُهُ كَذَلكَ، وَقَدْ أدَّى الأخذُ بالمَصَالح المُرْسَلَةِ إلى انتظامأَحْوَال النَّاسِ في مَعَاشِهِمْ، وفي هذا يقولُ الشَّاطبي رحمه الله :"والشَّريْعَةُ مَاْ وُضِعَتْ إلاَّ لِتَحْقِيْقِ مَصَالح العِبَادِ فيالعَاجِلِ والآجِلِ وَدَرْءِ المَفَاسِدِ ".وَقَدْ عَمل الصَّحَابة رضيالله عنهم بالمَصَالح المُرْسَلَةِ في وَاقِعَاتٍ عدة، منها: جمعُ أبي بكر مُتفرقَالصُّحُف التي كُتب فيها القرآنُ في مصحَف واحد، واستخلافه عُمَرَ بن الخطاب،ومصادرة عُمَرَ شَطْرَ أَمْوَالِ الوُلاة لما ظهرتْ لهم أموالٌ لم تكُنْ لهمقَبْلَ الوِلايةِ، هَذَا مَعَ عَدَم البَيِّنَةِ أنهم جَمَعُوهَا مِنْ غَيْروجهها، لكنَّها قَرينةٌ قَويَّةٌ يُطْمَئنُّ إليها، وَيَتَوَجُّهُ التَّعْويُلُعَلَيْهَا عَمَلاً بغلبة الظن .ويُشترطُلصحة العَمَل بالمَصَالح المُرْسَلَةِ، ألا تخالف نصاً، وألا تتضمن ابتداعَ عبادة،ولا زيادة ركن أو شرط لها، ولا زيادة أو نقصاً في مُقَدَّرَات الشَّريْعَةِ، وأنتثبت المصلحة في حُكْمها بالقَطَع أو غَلَبَةِ الظَّنِّ، ولا عِبْرَةِ بمُجَرَّدِالظَّنِّ، وَأَنْ يُرَادَ بحُكْمِهَا عُموم المَصْلَحَةِ، وألا يترتبَ عليه مفسدةٌأكبرُ منه، أو مساوية له.أما ما يتعلقُ بشَرْط عُمومالمَصْلَحة فإن كثيراً من نَظَر القَضَاءِ الإدَاريّ في مُرَاقَبَةِ مَشْرُوعيَّةِقَرَارَاتِ الإدَارَة تطبيقاً لأنظمتها ينصبُّ عَلَيْهَا، وَيَصِمُ ما يخالفهابعَيْبِ: الانحراف بالسُّلْطَة أو إساءة استعمال السلطة.والعملُبالمصالح المرسلة من مؤيدات هذا الدين الذي استوعب الزمان والمكان، فكان رحمةللعالمين، ومؤهلاً لأن يختم الله به الأديان، وقد قيض الله له علماء ربانيين،ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وهم حُرَّاسُالشَّريعة، وبركةُ كل عَصْرٍ وَمِصْرٍ، بما آتاهم الله من بسطة العلم والفهم،فإليهِمْ عِنْدَ الاسْتِحْكَام الرَّدُ ، وَعَلَيْهُمْ التَّلَقيْ والصَّدَّ،لَكِنْ بالبيِّنَاتِ والزُّبُر.والعالمُ الرباني الراسخ في علومالشريعة كالنجم الدري في غياهب الظلمة، وما أحسن ما قاله الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في مقدمة كتابه: (الرد على الجهمية والزنادقة): "الحمد لله الذيجعل في كل زمانِ فترةٍ من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضلّ إلى الهدى،ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنوره أهل العمى، فكممن قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم ضالٍ تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبحأثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويلالجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب،مجمعون على مخالفة الكتاب"، ويعلو الكعب في ركب أهل العلم والإيمان عندماتتوسع مدارك الفقيه في علم:"المقاصد" المشمول بالعديد من نصوص الكتابوالسنة، وفتاوى الفقهاء ، دون أن يدونه الرعيل الأول في كتاب يحمل اسم هذا العلم،إلى أن جاءت النوبة للأتباع فدونوا العُلوم كافة؛ وصار بذلك علمُ: "مقاصدالشريعة"، وهو كما قيل: "أصولها الكبرى، وأسسها العظمى، وأركانها التيلا تبلى، وفروعها المتغيرة حسب الزمان والمكان؛ مراعاة لحالة الإنسان"، وهومن أشق العلوم، ولا ينال إلا برسوخ علم، وتوقد فهم، واستقراء وتتبع، وسبر وتقسيم،وجمع وفرق، ومن قبل وبعد سلامة مقصد، فما أكثر ما صُرفت النصوص عن مقاصدها بحجةمقاصد الشريعة، وإنما هي مقاصدُ التَّشَهِّيّ والأَهْوَاءِ، تختلُ النَّاسَوتُدَلِّسُ عَلَيْهم، وَهَؤُلاءِ لا يخفون، مَعْرُوفون في لحن القول، والله طليبهموحسيبهم، فمنهم من يتتبع الرُّخَص في الأقوال، والتلفيق بينها، ومنهم من يميلُويُرَجِّحُ قَبْلَ أن يبحث، فتجده يطفف في الأدلة، ويتأول معانيها على مراده المسبق،ومنهم من يشطح حتى إنك لتتهمه في عقله قبل دينه، والسِّجَالُ مَعَ هَؤلاءِ لايَكَادُ يَنْتَهي، ولا أعظمُ من فتنةِ التَّشَهِّي والهَوَى إلا فتنةُ الشُّبهةوالغي، فالأولى: اعتمال الشهوة في النفس، والأخرى: مخالفة الرشاد، وعند الاستحكامنتلو قول الحق تعالى:" قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُبَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ".وفيمقابل هؤلاء: أهلُ العِلْمِ والإيمانِ، بعُلوم تطمئن إليها النفوس، وتسكن لهاالأرواح، فيها الاستقراء والتتبع، والجمع والفرق، على جادة سواء، تنشد الحق بدليله،لا وكس ولا شطط، على هدي من كتاب الله تعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم،"وَكَذٰلِكَجَعَلْنَٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ا"، ودينُ الله وسط بين الغالي فيه والجافيعنه، يمشي إليه العبد بين الخوف والرجاء، وما خابَ عبدٌ خاف ربَّه ورجاه.وفي دائرة عدالتنا أَعْمِدَةٌ في العِلْم والعَمَلِ، قَادَمَرْحَلةَ تَأسيسها وقعَّد لها بنصُوص الكِتَابِ والسُّنَّةِ وفهُوم أهل العلم وَصَدَرَتْأَنْظِمَةُ القَضَاء وإجراءاته مفيدةً من تجارب الآخرين فيما لا يخالف نصاًشرعياً، أخذاً بالحكمة أنى وجدت، ولاسيما أن الإجراءات لا علاقة لها بمحل الدعوىالذي تحكمه نصوص الشريعة في أصولها وفروعها، فإن لم يكن كانت البراءة الأصلية، ومنثم كانت السلطة التقديرية للقاضي، ما لم تخالف مبدأً قضائياً قررته محكمة المبادئ،والأخير مستفاد من قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن:(بم تحكم؟) قال: بكتاب اللّه. قال:(فإن لم تجد؟) قال : بسنة رسولاللّه. قال: (فإن لم تجد؟) قال: أجتهد رأيي، فَضَرَبَ رسولُ اللّه صلى الله عليهوسلم في صدره وقال: (الحمدُ لله الذي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِِ اللّهِ لما يُرْضِىرسولَ اللّه)، وهو في المسانيد والسنن بإسناد جيد،ومن هنا ندرك الفرق بين:"الثَّابِتُ"و المُتَغَيِّرُ" في منهجنا القضائي. وبالله التوفيق. حمد بن عبدالله بن خنين