أول ما قد يتبادر إلى الذهن ان المرأة (لا تختار) زوجها بهذا التعبير لأن الرجل هو الذي يخطب المرأة ولها هي وأهلها حق الموافقة أو الرفض.. قلت: والواقع ان المرأة لها حق (الاختيار) بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فالقبول أو الرفض هو نوع من الاختيار، وموازنة المتقدمين لها وتفضيل واحد منهم على غيره هو اختبار صريح. من ناحية أخرى، فإن خطبة الأهل لرجل معين بناء على قناعتهم ورضاها أمر فعله الفضلاء والعقلاء على مر التاريخ، وأشهرهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الذي خطب أبابكر ثم عثمان بن عفان (لابنته حفصة) دون ان يجد أي حرج.. وقابله كل من الصحابيين الجليلين بالصمت لأنهما يعلمان سراً لا يستطيعان البوح به، حتى إذا ذكر ذلك الفاروق لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يتزوجها خير من أبي بكر وعمر.. وخطبها عليه السلام لنفسه فلم تسع الدنيا فرحة عمر، وقال له صاحباه: لقد ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نستطع ان نبوح بسره وما وسعنا إلاّ ان نلزم الصمت. ومع هذا كله فإن مجال المرأة في اختيار الزوج ابتداء أقل رحابة من مجال الرجل الذي هو أقدر على خطبة من يشاء من النساء واصبر على الرفض. وعلى مر التاريخ وخاصة في العصر الحديث، أصبح اختيار المرأة لزوجها أكثر صعوبة.. ليس لكثرة العنوسة فقط ولكن لأن الفتاة وخاصة في العصر الحديث كثيراً ما تصر على اختيار شاب لا يرضاه والدها ولكنها تركب رأسها وتعلن انها إذا لم يتم تزويجها له فلن تتزوج أبد الآبدين.. وبعضهن - وهن نادرات - تهدد بالانتحار إذا لم يتم هذا الزواج! مع العلم ان الأب والاخوان والأهل بشكل عام أخبر بمعادن الرجال من الفتاة الصغيرة الغريرة التي قد تبهرها وسامة شاب لئيم، وتسحرها أناقته الظاهرة ورقته المصطنعة فتقع في حبه على وجهها وتصر على رأيها وتركب رأسها وتتسلح بعنادها أنها تريده ولا أحد سواه، ورغم كل العيوب التي يذكرها أهلها فيه إلاّ أنها لا تلتفت لذلك ولا تصدقه لأن (الحب أعمى) ولأنها تعتقد أنهم يكرهونه ويجهلون رقته ولطفه وسحر طلته فقد جعلت نظارات الحب المسحورة المركبة على عينيها عيوبه حسنات. والقول الصحيح هنا ان (لا) من حق الفتاة.. ولكن (نعم) من حق (الأهل) فإذا خطبها رجل كفء جيد في نظر أهلها وتمنوا موافقتها ولكنها قالت (لا) وأصرت عليها تمام الاصرار رغم ذكر كل محاسنه والصبر عليها، فإن أصرت على الرفض فهذا حقها الذي لا مشاحة فيه ولو كان الشاب (لقطة) في نظر أهلها، لأنها هي صاحبة الشأن، وهي التي سوف تعيش مع الشاب، وطالما أنها لم تقبله بتاتاً فلا يجوز الضغط الشديد عليها - فضلاً عن اجبارها - بأي حال من الأحوال.. أما إذا وافقت (الفتاة) على الزواج من شاب يعرفها أهلها أنه (وغد لئيم) فإن من حقهم ان يقولوا (لا) بالفم الملآن، والسبب أنهم أخبر بالرجال وأقدر على سبر الجوهر.. إذن فإن (لا) من حق الفتاة و(نعم) من حق الأهل ولأن الزواج ليس بين فردين (البنت والشاب) فقط بل هو تقارب كبير بين الأسرتين بالكامل. وقد ورد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (الزواج رق.. فلينظر أحدكم إلى من يضيع كريمته).. شبهت الزواج بالرق.. لأن المرأة إذا تزوجت يجب ان تطيع زوجها، كما ان الطلاق بيده لا بيدها.. لذلك تتأنى الفتاة العاقل.. والأهل الحكماء.. في الموافقة على طلب (الخاطب) حتى يتأكدوا من دينه وخلقه (وهما كلمتان جامعتان) فإن الدين لا يأتي إلاّ بخير.. والخلق الكريم يفتح لصاحبه أبواب النجاح ويحبب له قلوب الناس ويجعله واسع الأفق حلو المعشر محباً للعمل والنجاح يكره ان يكون عالة كما يكره الموت.. وقد ورد في الحديث الشريف: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه ان لا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) أو كما قال عليه السلام. و(الكفاءة) كلمة جامعة في اختيار الزوج والزوجة.. وان اختلف التفسير.. لكنها كلمة حكيمة.. وفي الأغلب نعتبر تقارب العمر من أهم أنواع الكفاءة.. فزواج رجل مسن من فتاة يناقض الكفاءة بمعناها الصحيح.. فالمسن العجوز في الزواج من صغيرة كالجندي العجوز في معركة خطيرة.. وقد بالغ أحمد شوقي في ذلك فقال: المال حلل كل غير محلل حتى زواج الشيب بالأبكار سحر القلوب فرب أم قلبها من سحره حجر من الأحجار ما زوجت تلك الفتاة وإنما بيع الصبا والحسن بالدينار فتشت لم أر في الزواج كفاءة ككفاءة الأزواج في الأعمار فهو ليس محرماً لكنه قد يفضي إلى محرم شنيع وهو (الزنا) حين يعجز الشيخ عن تلبية أدنى طلبات الفتاة الشابة ويلعب الشيطان لعبته. ويحسن بالمرأة ان ترفض الزواج ممن خطبها طمعاً في مالها وهو لا يحبها - حتى وإن أعجبها شكلاً - فإن المرأة لا تعيش إلاّ بالحب كما لا تعيش الزهرة إلاّ بقطرات الماء.. وزواج المرأة ممن لا تحبه ولا تكرهه ولكنه هو يحبها حباً صادقاً خير لها ألف مرة من زواجها من رجل يكرهها لكنه يتصبر عليها طمعاً في مالها.. قال الزهاوي: تراه زوجاً على اسعادها بطلاً وفي سوى ذاك ليس الزوج بالبطل له تبث هواها كي يجاريها بالمثل وهو عن الأهواء في شغل في شغل بابتزازها!! والخاطب الجلف الجاف، الأحمق السيء الخلق، يجب رفضه مهما كان وسيماً لين الكلام أثناء الخطبة وفي فترتها.. فإنّ (على لسان كل خاطب تمرة) كما يقول المثل العربي.. هذا الجلف الأقشر البذئ الخلق يؤذي المرأة وأهلها إذا تزوجها، فلا تغر الفتاة الصغيرة بوسامة وجهه ورقة كلامه وأناقته فإنه سرعان ما يعود لطبعه الأصلي ويبين على حقيقته بعد الزواج بقليل فإذا هو فظ غليظ جلف جاف لا يتحمل المسؤولية ولا يعرف الحب ولا الحنان، وإنما هو (ثور من الثيران).. وهو ما عبر عنه الشاعر الكبير حميدان الشويعر بقوله: لا جا ثور يخطب بنتك (1) فاضرب رجله وقل له قف! والله ما يسوى ملكتها ولا يسوى قرع الدف يظهر بنتك من بيتك ويذوقها جوع وحف ان سلمت من ضربه بايده ما سلمت من بف وتف يروحن حيل وملاط ويجن لقح ومردّف (2) ---------------- (1) قف: تنطق بالشعبي بين القاف والكاف وهي لفظ يستخدم لردع الثيران! (2) حيل: نشطة نضرة، ملاط: ضامرات البطون، لقح: حوامل، مردف: معهن أطفال. Tweet