يوم في المستشفى كسائر الأيام.. أذهب لافحص مريضتي لليوم الثامن على التوالي.. فأتعجب.. ما لي أراها اليوم بثوب جديد.. لقد اعتدت ثوبها الأول.. رغم ما كنت أعانيه من رائحته الكريهه.. فما الذي إستجد اليوم؟... فأجابت من غير أن أسأل.. اليوم بدلت ثوبي لأغسله ولبست ثوب ابنتي.. لأنه ليس لدي ثوب آخر.. ونظرت لابنتها فإذا بها ترتدي العباءة السوداء ..فقط .. لتستر جسدها. هل يعقل أنه ليس لدى كل منهما سوى ثوب واحد فقط؟.. رغم أنها لم تشكو لي يوما ضيق الحال.. وكانت دوما تحمد الله على الستر والعافيه ( رغم اصابتها بفشل القلب والكلى والسكر والضغط ) .. ثم حضر طبيبها الاستشاري .. وراح يحكي لي قصتها في أسى وبدون أن أسأل .. "أتدرين هذه المرأة لا عائل لها.. تعيش هي وابنتها في رباط.. ابنتهاهذه قد جاوزت الثلاثين.. ولم تتزوج بعد.. وهما لا تجدان ثمن الدواء ولا الغذاء.. أما ابناؤها الثلاثة فلكل منهم زوجة وأطفال .. ولكن لا أحد منهم يعمل!! طردوا جميعا من أعمالهم .. فهم لا يحملون الجنسية!..فهل يحق لمن لا يحمل الجنسية أن يعيش؟!!" ثم سرنا قليلا متوجهين لمريض اخر.. فصمت الإستشاري طويلا ثم قال .." أتدرين ما أمل هذه المرأة في الحياة.. حلمها الأجمل أن يشتغل أولادها الثلاثة براتب ألف ريال في الشهر !" وسرنا وخطواتنا تتثاقل ونحن نفكر في قسوة الحياة.. ثم عاد يقول:" للمفارقة .. منذ أيام دعى صديق لي ابني لحفلة ميلاد ابنه.. وقال ببساطة .. كلفتنا الحفلة 20 ألف ريال !! هذه حفلة لطفل عمره عشر سنوات!".. كم يبدو هذا مؤلما وقاتما!.. واستغرقت في التفكير.. ألهذه الدرجة حبسنا في سجون ذواتنا ونسينا هموم العباد.. ألا يظن هذا الذي صرف في ليلة عشرين ألفا لأجل حفلة .. وألئك الذين ينفقون عشرات الآلاف في الأعراس كل ليلة .. أن هناك ربا .. وضع نصيب الفقراء في المال تحت أيديهم ليبلوهم.. أيردون الحق لأهله .. أم يقولون إنما أوتيناه على علم ؟.. ألم يلحظ هؤلاء التعاسة التي يعيشونها.. ونسب الطلاق التي بلغت أعلى المعدلات.. وحالات الاكتئاب التي لا حصر لها .. والخسائر التي تلحق بهم في الأسهم بالملايين... ألا يدركون أن كل هذا من شؤم الأنانية.. ألا يدركون أنهم لو انفقوا على أولئك الذين ظلمتهم الدنيا فلا في بلادهم يجدون ما يعيشون عليه ولا هم قادرين على الحصول على وقت يومهم هنا.. ماذا لو أقيمت مشاريع لتشغيلهم و قدمت القروض لعونهم على بدأ حياة أفضل لفتح الله علينا وعليهم بركات من السماء والأرض.. ولأنزل من السعادة ما يغنيهم عن اللهث بحثا عنها في سلع وحفلات ورحلات كل يوم.. * معيدة في قسم الطب النفسي بجامعة الملك عبدالعزيز.