لا تذكر علاقة المثقف والثقافة بالصحافة، منذ البدايات، إلا ويذكر "الإطار" الأكثر وضوحا لهذه العلاقة؛ إطار الصفحات (الملاحق) الثقافية، وما تقدمه من مواضيع ومواد صحافية تتمثل هذه العلاقة. إما باتجاه "الشللية" والمصالح كما يصفها البعض. أو باتجاه ما هو متوقع أي مُنتج معرفي تنويري، يُضيف للمشهد دون أن يغفل طبيعة العلاقات الإنسانية وتأثيراتها. «فورة» الثمانينيات -------------------- برغم إن نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، هو الوقت الذي كانت فيه الصفحات الثقافية العربية تشكي التراجع مقارنة بما سلف. إلا أن الصفحات الثقافية السعودية كانت في أوج نشاطها "أدبيا". فكانت ثقافة عكاظ، مربد اليوم، روافد البلاد، المدينة الأدبية وملحق الأربعاء، إبداع مجلة اليمامة، الملحق الأدبي للندوة، ثقافة اليوم في الرياض، وغيرها الكثير، تخوض معاركها التنويرية على مستوى الشعر والقصة والرواية. محمد الناصر، شاب ثلاثيني، كاتب ومدون إلكتروني، عاصر وتابع الكثير من الصفحات الثقافية، ورقيا وإلكترونيا. يستهل حديثه ل "الاقتصادية الثقافية" متسائلا: هل تضخم العلاقات (الشللية) على حساب المنتَج الثقافي، اليوم، ناتج عن اختزال موضوع "الثقافة" الواسع في معارك "أدبية"، مع الإغراق في شخوص ومعارك "فورة الثمانينيات"؟ أم العكس، أي أن غياب التنوع الثقافي، أسهم في تقديم منتَج هش، فطغت العلاقات لتغطية عوار المنتَج؟ سؤال يحمل بداخله إجابته، إذ يستطرد الناصر قائلا: "لا تزال لهذه اللحظة الصفحات الثقافية السعودية عبارة عن معارك "أدبية" تحاكم فترة (الثمانينيات)، بوصلتها التي كانت في مجملها حالة تمرد ورفض للوصاية من جهة، و"تقليد" للحديث العالمي أو العربي من جهة أخرى، دون الإتيان ب (حداثة) حقيقية". وهنا بحسب الناصر "يصبح المأزق مأزقين، من حيث اختزال الثقافة وحصرها في منتج أدبي صرف. إضافة إلى عدم تجاوز المرحلة السابقة ومعاركها الشخصية. ما انعكس، على المنتج الصحافي الذي لم يخرج هو أيضا عن الشخوص ذاتهم أو "ورثتهم أدبيا"، فانتهينا لوصاية جديدة. المثقف مأزوم بفوقيته ----------------------- هيثم السيد، شاعر ومحرر ثقافي بصحيفة "مكة" يؤكد أن الصحافي الثقافي، يجب ألا يستثنى من هذه المعادلة، فهو أيضا واقع في مأزق وليس المشهد الصحافي الثقافي فقط، "فناهيك عن كونه يتعامل مع وسط يمثل التأزم مكونا أصيلا فيه، يفترض فيه كذلك أن يجد لنفسه مكانا مستقرا بين سندان المثقف المأزوم بفوقيته، ومطرقة المؤسسة الثقافية المأزومة بالهرب الأبدي من شبهة ضعف النشاط وانعدام الجدوى، وفي وضع كهذا ينشغل هذا الصحافي عن استهدافه الحقيقي وهو الجمهور الذي يفترض أن يتلقى محتوى محترفا يجذبه إلى الثقافة التي ما زال لا يعرفها إلا من خلال صور نمطية وانطباعية محضة، بين كل هؤلاء المأزومين وحده الصحافي الثقافي يدرك الحجم الفعلي للأزمة". الأمر الآخر، المتوتر في هذه العلاقة، بحسب السيد، أن هناك مثقفون "يرون في الصحافي سكرتيرا، وهناك من يرونه موظف علاقات عامة يفترض أن يعمل لمصلحتهم، بينما الشكل النظري لهذه العلاقة هو التكامل بين الطرفين". في حين يرى سكرتير التحرير الثقافي بصحيفة "الجزيرة" سعيد الدحية الزهراني، واقع المشهد الثقافي بشيء من التفاؤل رغم الصورة التي تستحضرها الأذهان، عن مراحل تاريخية بعيدة على حد تعبيره "فهناك اتجاه عام بدأ في التشكل نحو الطرح الثقافي في مجمل السياقات الإعلامية المتخصصة بالمضمامين الأدبية.. على أن الاتجاه الأحدث في نظري يسير نحو أفق المعرفيات العامة.. فلم تعد تلك الحمولات المغرقة في النسيج الأدبي ولا تلك الرؤى الممهورة ببصمة الثقافوية تحضر بذات الصورة التي تستحضرها الأذهان من مراحل تاريخية بعيدة فيما يتعلق بالصحافة الأدبية، وكذلك الحال عند الحديث عن المسحة الثقافية تالياً مع الإقرار بوجودها حالياً". والزهراني لا يغفل تأثير دور "الاتصال" وسياقاته المختلفة والمتنوعة على كل مرحلة، فكل ما سبق، يأتي في تقديره "مقترناً بصيغ حتمية يفرزها "سياق الاتصال" بوصفه حجر الزاوية في عملية ظهور وتلاشي أشكال تداولية معينة من حين إلى آخر.. مضافاً إليها على المستوى الفني المباشر غياب ثقافة التخصص التي تشمل الصحافة الصحافة المتخصصة بوصفها نشاطاً إنسانياً يتأثر ويؤثر في الأنماط الحياتية العامة". إلى ذلك، يصل الزهراني إلى نتيجة لا تتفق مع مقولة أن "الصحافة الثقافية لا تزال أدبية مثلما بدأت".. فهي اليوم، في رأيه، "صحافة ثقافية وتتجه نحو الطرح المعرفي العام الذي يقدم المعرفة المباشرة تناغماً مع واقع عصري جديد يتجاوز الإنشائيات المملة التي تحضر ضمن رداء الثقافة دائماً، لينتهي إلى تقديم قيمة معرفية مباشرة". وهذا ما تؤكده بحسب الزهراني، "تحولات صناعة الصحافة التي ترتهن إلى شروط السوق ومتطلباته". الثقافة بمعناها "الأضيع" ----------------------- وبينما يعزو البعض تراجع محتوى الصفحات الثقافية أو حتى إمكانية تقدمها إلى تحول واضح في التقنيات، يختلف الناصر، مع هذا الطرح، مؤكدا أن الإنترنت لم يأخذنا باتجاه تقنيات جديدة فنيا بقدر ما أخذنا باتجاه مواضيع متنوعة ثقافيا، فإضافة للمادة الأدبية هناك أيضا مواد فكرية وتاريخية وأخرى علمية، وهو ما لا توفره بحسب الناصر كثير من الصفحات الثقافية السعودية، حتى الإلكترونية منها". ميزة الإنترنت ثقافيا في "تنوعه" فإضافة للمادة الأدبية هناك أيضًا مواد فكرية وتاريخية وأخرى علمية. أما السيد، فعلى النقيض تماما، لا يرى أن هناك اختزالا في الأساس، منتقدا ما يسمى "الثقافة بمعناها الأوسع"، فهي بالنسبة له، "أفضل عبارة يستخدمها شخص يريد أن يبرر لنفسه طرحا عشوائيا ويعفيه من تحديد المعيار"، ويضيف السيد "اختزال صفحات الثقافة في الأدب والفنون ليس عيبا، بل هو انتماء واضح وتحقيق مبرر للفكرة المتعارف عليها حين نقول "ثقافة" دونما حاجة للالتفاف على المصطلحات أو تحميلها طابعا فلسفيا يخرج بها عن دائرة الفهم إلى فراغ شاسع مفتوح على كل الاحتمالات، الأدب نافذة مشرعة للفكر والإبداع وهو ليس بمحدودية تجعل الاكتفاء به مشكلة، والفنون عوالم تعكس مختلف التجليات". ويستطرد السيد موضحا المفهوم الملتبس الذي تروج له، في رأيه، الكثير من الجهات قائلا: "لقد تعمدت بعض الجهات في فترة سابقة مفهوم الثقافة بمعناها الأوسع وأنا اسميها الثقافة بمعناها الأضيع ففتحت المجال لندوات وأنشطة في الطب والاقتصاد والتطوع وغيرها من المجالات التي أحالت العمل الثقافي إلى تصور ممسوخ عديم الهوية، المقاربة نفسها يمكن تطبيقها على الصفحات الثقافية التي لو قررت تبني هذا المفهوم بالغ العمومية فستكتب عن الطبخ والتقنية والأزياء والسياحة وغيرها، وبالتالي يكون هذا استحواذا مجردا ومجانيا على مجالات لها تفصيلاتها الموضوعية وصفحاتها المتخصصة التي تجيد طرحها كثقافة مستقلة دون الحاجة إلى دمجها عشوائيا في فكرة معينة لمجرد أن اصطلاحا معينا برر ذلك". الجمود والتنوير --------------- وعن سبب تراجع سقف توقعات القارئ حيال الصفحات الثقافية، يعزو الناصر ذلك إلى "العقلية التقليدية" للمشرفين، التي لا تواكب التحديث مقارنة بما قد نلاحظه من مواكبة في صفحات السياسة والرياضة مثلا. إضافة إلى خضوع النشر في كثير من الصحف إلى المزاجية والشللية والمصالح المتبادلة بغض النظر عن الجودة. "المصلحة" أو "الشللية" وحساباتها، هي أيضا ما لا ينكر الزهراني وجودها، إلا أن الأمر في تقديره "لا يصل إلى حدة الطرح التي يحملها السؤال.. وتحديداً فيما يتعلق بالأندية الأدبية وجمعيات الثقافة، لأنها تحمل من العلل ما يدحض أي محاولة للتقليل من شأنها بأنها تستهدف التعبئة الشخصية المجردة. فليس من المقبول أبداً أن تستمر مؤسسات الثقافة في وطننا بهذا الحال من الجمود". أما من يكتب عن "أوجاعها" فهو في نظر الزهراني، "يسهم، على الأقل، في محاولة التغيير إلى الأمثل.. فهب أن هناك أهدافا شخصية رخيصة.. لكنها في نهاية المطاف تتناول خللا واضحاً يسوغ لها الطرح". وعن تحميل الصحافة الثقافية مسؤولية "التنوير" الفكري وتراجعه بسبب التخصيص الأدبي والفني وبالتالي غياب الأسس الفلسفية التي تؤهل له وفقا لبعض المنتقدين، يقول الزهراني: "تراجع الطرح التنويري في مقابل بروز الطائفية والتكفيرية ونحوهما.. هو محور يفترق في شكلين صحافيين واضحين؛ الثقافية والدينية.. وقد أتفق في تراجع نسبي لقضايا التنوير ضمن أطر معينة، إلا أنها حاضرة ضمن سياقات الصحافة الثقافية التي تأتي في صميم نشاطها المهني". وهنا لا تلام الصحافة الثقافية في هذا البروز الطائفي، بقدر ما تلام بحسب سعيد الزهراني، مواقع التواصل الاجتماعي، التي يصدق هذا الأمر عليها تماماً.. ولكن، يستطرد الزهراني، "لا بد من أخذ "سياق الاتصال" واختلافه في الاعتبار، فنحن، أمام وسيلة أخرى وبيئة أخرى تختلف عن وسيلة وبيئة الصحافة.. والحديث عنها يحتاج إلى حديث أطول ومساحات أكبر". المصدر: الاقتصادية