أثار التقدم المفاجئ لمقاتلي "تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام" الملقب ب"داعش"، واجتياحه الكثير من المدن العراقية، سقوط الموصل التي تعد ثاني أكبر المدن العراقية في قبضته، وفرار "جيش الملكي" من مواقعه، وترك آلياته ومصفحاته غنائم حرب ل"داعش" العديد من التساؤلات حول قوة "تنظيم الدولة الإسلامية"، وتعداد مقاتليها وعدته، والدعم الذي وصل إليها بعد أن جففت عليها المنابع في سوريا، ولحقها هزائم متتالية في المناطق التي سيطرت عليها وكانت تحت مسؤوليتها؟ وسط حديث عن مخطط جديد يعيد قوات التحالف للعراق؟ أم الأمر لا يعدو مجرد "لعب أدوار"، وإظهار ضعف حكومة نوري المالكي المغرقة في المذهبية حتى الأذقان، أم أنه بداية لهندسة الأوضاع في كل من العراقوسوريا؟ وماذا عن صمت واشنطن على تقدم "داعش" وحلفائها في المنطقة؟ أسئلة كثيرة تحتاج إلى إجابات، بحسب ما نشرته "التقرير"اليوم، خاصة بعد الحرب الضروس على "داعش" في سوريا والهزائم التي لحقت بها، وتجريدها من قوتها، وطرد مقاتليها من المناطق التي كانت تسيطر عليها، إلى قوة قاهرة لجيش الملكي في العراق، والميلشيات الشيعية المسلحة التي لا تعد ولا تحصى، والرسالة التي أوصلتها "داعش" بقوتها المفاجئة للذين ضاقوا ذرعًا بديمقراطيات الربيع العربي الوليدة، وانقلبوا عليها، ودعموا جنرالات العسكر "السيسي" في مصر -علانية- و"حفتر" في ليبيا -سرّا حتى الآن- فجاءهم تنظيم الدولة الاسلامية في العراق من حيث لم يحتسبوا؟ فهل يتعايشون مع "داعش" أم هو "فخّ" نصب إليها للتخلص منها كليًّا بعد تصفية حساباتهم مع نوري المالكي؟ وماذا عن الموقف الإيراني الغامض و"سر" صمت دول الخليج و"أبعاد" التحرك التركي بعد احتجاز مقاتلي "داعش" لقنصلها في "نينوي" وعدد من مرافقيه، وإلغاء وزير خارجية أنقرة لزيارته المهمة لواشنطن، واجتماعات أردوغان مع أركان حكومته لتدارس الوضع في العراق وكيفية التعامل معه؟ "داعش" الوليدة.. والإمارة الغائبة --------------------------------- وتنظيم "داعش" يعدّ من أحدث التنظيمات الجهادية، فهي خرجت من عباءة تنظيم "القاعدة في العراق" م2013، وتنصلت منها، وأصبحت من أقوى الجماعات الرئيسية التي تقاتل قوات بشار الأسد في سوريا، وحققت مكاسب على الأرض في العراق. وإن كان لا يعرف حجم تنظيمها ولا قوتها العددية، لكن من المؤكد أنه ينخرط فيه الآف المقاتلين من العراقيين والأجانب، ويقودها أبو بكر البغدادي، المولود في سمراء شمال بغداد عام 1971 والذي انضم للجماعات المسلحة التي بدأت تقاوم الغزو الذي قادته الولاياتالمتحدة عام 2003م، وينسب ل"البغدادي" أنه جعل "داعش" أكثر جذبًا لشباب الجهاديين مقارنة بتنظيم "القاعدة" التي يتزعمها أيمن الظواهري. وكما قال الباحث بجامعة كينجز كوليدج في لندن بيتر نيومان: "إن نحو 80% من المقاتلين الغرب في سوريا انضموا إلى الجماعة، وخصوصًا من بريطانيا وفرنسا وألمانيا، إضافة الى دول أوروبية أخرى، والولاياتالمتحدة والعالم العربي والقوقاز"، وإنها تسعى لتكوين إمارة إسلامية تمتد من سوريا إلى العراق". وقد حقق التنظيم نجاحات عسكرية كبيرة، في شهر مارس 2013، عندما سيطر على مدينة الرقة السورية، التي تعد أول عاصمة إقليمية تسقط في قبضة المعارضة السورية المسلح. وفي يناير2014، استفاد التنظيم من تنامي التوتر بين الأقلية السنية في العراق والحكومة التي يقودها الشيعة في العراق، من خلال السيطرة على مدينة الفلوجة، ذات الأغبية السنية في محافظة الأنباء غربي العراق، كما استولت على قطاعات عريضة من مدينة الرمادي، وانتشرت في عدد من المدن القريبة من الحدود التركية والسورية، ولكن سقوط الموصل في قبضتها مؤخرًا كان بمثابة صدمة للعالم أجمع. خلط الأوراق .. أم مناورة لحكومة بغداد ----------------- وقد خلط تقدم "داعش" وتوغلها في المدن العراقية الأوراق في العراق، بل في المنطقة كلها؛ فعلى المستوى الداخلي استدعى نور المالكي مذهبيته، واعتبر أن ما حدث "مؤامرة" على الشيعة في العراق، وقال: "سنعيد بناء جيش رديف من المتطوعين أصحاب الإرادة إلى جانب الجيش النظامي". وأكّد أنّ ما حصل "خدعة ومؤامرة في الموصل وسنحاسب المسؤولين عنها". ودعا الزعيم الشيعي مقتدى الصدر لتشكيل ما أسماه "سرايا السلام" للدفاع عن الأماكن الدينية الخاصة بالمسلمين والمسيحين بالتعاون مع الحكومة. فيما قال الخبير في مركز الشرق الأوسط للأبحاث الاستراتيجية "أورسام بيلغاي دومانلي": إنهم كانوا يتوقعون وقوع هجوم من هذا القبيل بعد الانتخابات العراقية، لكن انسحاب الجيش العراقي يولد في الأذهان إشارات استفهام، فيما إذا كانت الحكومة تعمدت هذا الانسحاب في خضم المساومات لتشكيل الحكومة الجديدة، وأرادت من خلالها توجيه رسالة للسنة في العراق أنه في حال لم يكن هناك حكومة قوية فإنهم سيصبحون عرضة لهجمات المسلحين. وفسر "دومانلي" رفض المالكي دعمًا من قوات البشمركة الكردية، بأنها "ستظهر الحكومة المركزية بمظهر العاجز عن الدفاع عن البلاد". ووضع "دومانلي" احتمالًا آخر لانسحاب الجيش العراقي من الموصل بأنه: "ربما يكون حدث ضمن خطة تهدف لتجميع القوى، والانقضاض بعدها على "داعش"، مشيرًا إلى أن استمرار تقدم "داعش" في العراق، وقيامها بعمليات في المناطق الشيعية قد يشعل حربًا (سنية – شيعية) في العراق". ولكن المحلل السياسي لشؤون الشرق الأوسط في مركز الشرق الأوسط للأبحاث الاستراتيجية "أويتون أورهان" برّر رفض الحكومة المركزية مساندة قوات البشمركة الكردية لمحاربة داعش، لتخوفها من أن يحقق الأكراد مكاسب في مناطق الموصل وكركوك التي تعتبر واحدة من أبرز نقاط الخلاف بين الأكراد، والحكومة العراقية، وأوضح رئيس المركز "ويسال أيهان"، أن "الحكومة العراقية ليس لديها سيطرة على العديد من المناطق في البلاد"، مشيرًا إلى "أن بقاء المالكي كرئيس للوزراء بعد ما حدث، يشكل خطرًا وتهديدًا على أمن العراق"، لافتًا إلى أنه "لولا وجود دعم شعبي لداعش في المناطق التي سيطرت عليها لما تمكنت من ذلك". الولاياتالمتحدة والخوف على النفط.. والهلع التركي ----------------------------------- أما الولاياتالمتحدة، فقط آثرت الصمت في البداية تجاه تقدم داعش، ولكن سقوط الموصل ثاني أكبر المدن العراقية في قبضة التنظيم جعل واشنطن تتحرك بسرعة واعتبرت ذلك يشكل تهديدًا على المنطقة بأكملها. فيما كان الموقف التركي الأسرع في ردّ الفعل؛ فقد عقد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان اجتماعًا ضمّ عددًا من الوزراء ومسؤوليين رفيعي المستوى، في المقر الرسمي للحكومة لتقييم التطورات المتلاحقة في مدينة الموصل شمال العراق، وحضر الاجتماع نائب رئيس الوزراء بشير أطالاي ونائب وزير الخارجية ناجي قورو ورئيس جهاز الاستخبارات التركية هاكان فيدان ومدير العمليات بقيادة الأركان أردال أوزتورك. وأفادت المصادر أنّ رئاسة الوزراء التركية تتابع عن كثب التطورات في الموصل، وخصوصًا ما يتعلق بالقنصلية التركية، مبينةً أن وزارة الخارجية التركية بصدد إصدار بيان بالخصوص خلال الساعات المقبلة، فيما قطع وزير الخارجية التركي، أحمد داود أوغلو، زيارته إلى نيويورك، التي وصلها في وقت سابق لإجراء مباحثات في الأممالمتحدة ولقاء أمينها العام، بان كي مون، وتوجه إلى أنقرة للوقوف عن كثب على آخر التطورات في العراق. وكان رئيس مجلس محافظة نينوى أعلن أن القنصل التركي، "أوزتورك يلماز"، وعددًا من مرافقيه، رهائن لدى تنظيم "الدولة الاسلامية في العراق والشام بالموصل"، وهدد نائب رئيس الوزراء التركي بولنت أرينج أن بلاده لن تسمح بشكل من الأشكال للجماعات المتطرفة، والجماعات المرتبطة بالقاعده، أن تفرض سيطرتها على المنطقة التي يقطنها التركمان، والمكونات الأخرى، باختلاف معتقداتها، ومذاهبها، وإثنيتها، وتكوين تنظيمات غير قانونية لكسب القوة، ووصف "أرينج" تطورات الأحداث في الموصل بأنها تدعو إلى القلق الشديد، مؤكّدًا أن "تركيا تراقب الأوضاع عن كثب". أجندة إيران المعادية للعراق ---------------------------- وفرضَ الوضع في العراق نفسه على البرلمان البريطاني؛ حيث خصص اللورد كلارك إحدى قاعات البرلمان للاستماع إلى تقييم عدد من الخبراء العراقيين والأجانب، وطبيعة التطورات السياسية والاجتماعية والأمنية التي طرأت على العراق، وحضر الجلسة عدد من الشخصيات العراقية، وهم وزير النفط العراقي السابق عصام الجلبي، ورئيس جمعية المحامين العرب في بريطانيا صباح المختار، والدكتور صباح توما الذي تحدث عن الأقلية المسيحية، إضافة إلى مساعدين سابقين للأمين العام للأمم المتحدة، هما دينيس هاليدي المساعد السابق للأمين العام للأمم المتحدة، وهانز قراف، واللذين استقالا بعد غزو العراق. وقال الشيخ عبد الحكيم السعدي -شقيق المرجع السني عبد الملك السعدي أحد رجال الدين البارزين بالرمادي- إن إدارة الاحتلال "تبنت أجندة إيران المعادية للعراق، وعززت نفوذ الأحزاب التي أسستها ورعتها المخابرات الإيرانية"، مضيفُا أنّ العراق كان ينعم بالتعايش والاستقرار قبل الاحتلال، لكن العملية السياسية التي أعقبته والدستور الجديد ألحقا الأذى بالمجتمع العراقي، وارتكبت جرائم القتل والتعذيب والإبادة. ووصف السعدي الحكومات العراقية المتتالية عقب الاحتلال ب"بالدمى التابعة لإيران، والتي وفرت الحماية للمليشيات التي مارست التطهير العرقي"، وحمّل "أمريكاوبريطانياوإيران ومن اشترك معها في غزو العراق المسؤولية الكاملة عن الجرائم البشعة التي ارتكبت هناك". أموال النفط العراقي.. أين تذهب؟ -------------------- فيما أشار وزير النفط العراقي السابق عصام الجلبي إلى الفساد الاقتصادي المستشري في العراق وتحديدًا في ملف البترول، وقارن الجلبي بين حجم الإيرادات منذ اكتشاف النفط بالعراق عام 1927 وحتى اليوم، وقال "منذ 1927 وحتى الاحتلال عام 2003 بلغت إيرادات العراق من النفط 280 مليار دولار، بينما تجاوزت سبعمائة مليار دولار منذ 2004 وحتى 2014 بسبب زيادة الأسعار، وتساءل: "أين هذه الأموال؟ ولماذا لا تصرف على الخدمات وبناء المستشفيات والمدارس؟". واعتبر الحكومات العراقية عقب الاحتلال مسؤولة عن إغراق المواطنين في الغلاء، "وبدلًا من أن توفر الدولة المتطلبات الأساسية التي كانت متاحة للمواطنين قبل الاحتلال، تركتهم يشترون كل شيء من الغاز إلى الطعام والدواء". وقال دينيس هاليدي إن الوضع الذي انتهى إليه العراق "نتجَ بسبب جملة من المعطيات منذ حرب الخليج، ثم الحصار الذي قتل مليونًا ونصف المليون عراقيّ ودمّر البلد، وأسهمَ بشكلٍ مباشر في إنهاك المجتمع العراقي، مضيفًا أنّ الغزو الأميركي-البريطاني الذي تبع هذا الحصار أنهى البلد تمامًا. ويبقى السؤال: هل تلاعب "داعش" نفسها؟ أم تلعب نيابة عن :الغير" وتحارب ب"الوكالة" في العراق بعد هزائمها في سوريا؟