قارب الموسم الرمضاني للأعمال الفنية على الانتهاء وسط ردود فعل من قبل النقاد والمهتمين تكاد تجمع على تواضع جميع المنتجات المقدمة. الإجماع يتركز حول فقدانها لأي مضامين ثقافية عميقة، أفكار إبداعية، معالجات خلاقة، والتهريج في قالب الكوميديا. وأشهر هذه البرامج ''واي فاي'' و''أبو الملايين'' و''سكتم بكتم'' وغيرها الكثير المتناثر في مختلف القنوات السعودية الخاصة منها والرسمية. كتمهيد معرفي، قبل البدء في نقاش المضامين الإبداعية والفنية لهذا النوع من البرامج في هذا الاستقراء الصحافي، يقول الناقد السوري حازم شيخو في تعريفه ل ''الفن الجميل'': ''إن السهولة في التعاطي مع كلمة الترفيه تنسحب أيضاً إلى المعنى والمضمون، فكلمة الفائدة هنا تبدو مبتذلة وسطحية، وتشير بصورة فورية إلى تلقي المعلومات، وأرى أن نستعين هنا لتوضيح المقصد بكلمات الشاعر الإنجليزي ت.س. إليوت: ''أين هي الحياة التي ضيعناها في العيش؟ أين هي الحكمة التي ضيعناها في المعرفة؟ أين هي المعرفة التي ضيعناها في المعلومات؟''. ويضيف ''وهنا تكمن حقيقة وأصالة العمل الفني، فينبغي له أن يفتح لنا آفاقاً جديدة، وأن يعمّق وجودنا وأن يثير الجميل فينا، ولا ينبغي للعمل الفني أن يقودنا إلى التشاؤم أو التفاؤل، بل أبعد من ذلك، ينبغي له أن يحفّز فينا أفكاراً ومشاعر خلاقة''. ولكن هل حملت البرامج آنفة الذكر أي أصالة فنية، ثقافية،أو قيمية؟ متذكرين أن الفنون بشتى أنواعها هي أرقى ما أنتجته البشرية كوسيلة للخطاب الجماعي. يجيب عن هذا التساؤل الناقد والكاتب السعودي محمد العباس، وهو أحد المهتمين بعملية إنتاج المعنى، قائلاً ل ''الاقتصادية'': ''ما يقدم الآن من برامج في قوالب درامية، لا يقدم أياً من تلك القيم بالتأكيد. فهذه البرامج غير خلاقة وغير مبتكرة، وهي تتسول موضوعاتها وتعليقاتها السطحية من وسائل التواصل الاجتماعي، ومن ثم تعيد تقديمها في تمظهر تلفزيوني لا أكثر، وبدلاً من أن يصدر الفن القيم أصبح هو مستقبلها ومستهلكها''. والحال، أنه بدلاً من أن تقف المؤسسات المحترفة أمام مد موجة ''تسطيح الوعي'' التي تقودها وسائل التواصل الاجتماعي و المواقع الإلكترونية، انساقت وراءها، ليس في انطباعية و ذاتية نقدها فقط، بل وفي تولي إعادة إنتاج هذه المعارك الهامشية والقشرية. فأصبح هناك تجويف واضح لمصطلح مثل ''الليبرالية'' التي توصم بها هذه البرامج، و تشويه ساهم فيه كتّاب هذه الأعمال ''الفنية''، والذين هم بدورهم حملوا معاركهم وخصوماتهم الثقافية من أعمدتهم الصحافية إلى شاشة التلفزيون. فغدا نقد أي ظاهرة دينية أو اجتماعية أو سياسية، يصنف على أنه ''ليبرالي'' وإن لم يكن، تبعا لكاتب هذا النص الدرامي. هذه المعالجات البدائية في أدواتها الفنية لم تسطح ''الليبرالية'' وحسب، بل و''لبرلة'' التسطيح، وجعلت كل حراك نقدي مهما بدا ''شعبوياً'' يصنف على أنه ''ليبرالي''. في هذا السياق، يرى بدوره الكاتب والناقد المسرحي محمد العثيم في حديثه ل ''الاقتصادية'': ''تسطيح المفاهيم مثل الليبرالية وتقديمها في قوالب ''شعبوية'' مفهوم، كون الدراما المعروضة في رمضان معظمها تأخذ المنحى الاستهلاكي فهي لا تقدم ولا تحمل من الأساس مضامين حقيقية. وهو غرض معلن للمنتج ففي الغالب يغيب الهدف الثقافي، ويتقدم الغرض التجاري البحت على معظم هذا النوع من الدراما، ويقدم بصيغ تسطيحية. ولتكرار طلب هذا النوع من المنتج استسهل الفنان العمل، وصار هو الآخر لايحس بمسؤولية عما يقدم خصوصا أن ما يقدمه يدر عليه الأجر الكافي''. معظم الأعمال الفنية المسيطرة على ساعات الذروة لدى المشاهد السعودي، مكتوبة من قبل كتاب صحافيين قادمين من خارج الحقل الفني والدرامي والكوميدي المتخصص كملمح أبرز. ولم تتوقف مشاركتهم على كتابة أفكار العمل الفني بل تعدتها إلى كتابة الحوار والسيناريو، بل وحتى الشارة الغنائية في تكريس مبتذل لفكرة ''المبدع الفرد''. وهذا ما يراه العباس الخلل الأهم، شارحاً بقوله ''كتابة عمل درامي تلفزيوني يحتاج إلى خبرة و تمرس في هذا الجمال، لا أن يكتب بأيدي هواة يلجأون إلى معالجة عناوين صحافية وشخوص مشهورة بسطحية. تجعل النص المكتوب يبدو وكأنه تدريب للكاتب على حساب المشاهدين''. و يزيد العباس ''الدراما بمختلف قوالبها، تعكس الخبرات والمعاني التي يحاول الإنسان التعبير عنها. فهي في جوهرها تقوم على تحرير التجربة الإنسانية من الكلمات لتحولها إلى كائن حي. ما نراه اليوم هو عرض لا ينتمي للفن ولا للدراما بصلة. كون هذا العمل الفني غير قادر على التمظهر بأدوات ترتقي بوعي المتابع بدلاً من تسطيحه. والسبب في كل هذا غياب النص الذي تفتقده العملية الفنية السعودية بشدة''. وعلى النسق نفسه، وبالعودة للعثيم يضيف ''القضية الثانية في مثل هذه الأعمال هي غياب المثقف ''فنياً'' لأن وجوده يزيد التكلفة، وليست ضرورية للمنتج لأنه لا يخضع لأي اشتراطات في المضمون. عموما محطات الفضاء نمطت الدراما بهذا النوع الترفيهي الاستهلاكي حتى صار هو سلعة السوق ويصعب تغييره بأي منتج جاد لأنك ستجد من يصر على أن العمل ترفيهي وكوميدي ويستحق العرض والحقيقة أنه تسييد للتهريج على القيم الفنية الإبداعية''. هذا السيل من البرامج التي تقوم بتجويف الوعي العام, و الهبوط بذائقته الجمالية ب ''شعبوية'' طرحه أعاد للأذهان الفراغ الذي خلفه غياب مسلسل ''طاش ما طاش'' ذائع الصيت بعد توقف فريقه عن إنتاجه. فرغم كل ما قيل في ''طاش ما طاش'' و ما يمكن أن يقال, إلا أن ''طاش'' سيبقى سقف التجربة الفنية السعودية الأعلى في شقيها النقدي والتنويري، وذلك لأسباب عدة. أبرزها أن كتابة أفكار ''طاش'' كان المجتمع يشارك في كتابتها وتعاد صياغتها من قبل مختصين، فأبدع ''طاش'' في نقده لأنفسنا واضحاكنا على تناقضاتنا، وليس إضحاكنا على الآخرين كما تفعل البرامج الحالية. طاش قاد باقتدار أدوات درامية عرفت المناطق السعودية ببعضها البعض، وجعل السعودين يستمتعون بتنوعهم و يفهمونه. ستظل تجربة طاش ما طاش عالقة في الذهنية السعودية ليس من خلال بطليه (ناصر القصبي وعبد الله السدحان) فقط، بل ومن خلال رفعه لسقف النقد لقضايا شائكة عبرت بها السعودية في ال 15 عاماً الماضية من التطرف الديني، الإرهاب، العنصرية، القبلية، قضايا المرأة، التعليم، والخدمات العامة. هذا الرؤية الثقافية العميقة التي قادت ''طاش'' ليس لبيوت السعوديين فقط، بل امتدت به إلى بيوت عربية من المحيط إلى الخليج، وأدخلت إحدى حلقاته إلى مكتبة الكونجرس الأمريكي.