الشروق المصرية بعد أكثر من نصف قرن على التدخل العسكرى المصرى فى اليمن من شبه المؤكد أن تدخلا جديدا على وشك أن يحدث. ورغم أن الظروف تختلف بصورة جذرية إلا أنه لا يمكن إلغاء خبرة التاريخ أو التقليل من مخاطر التورط العسكرى. رهانات الستينيات اتسقت مع عصرها وخياراته فى دعم حركات التحرير والدفاع عن الأمن القومى المصرى عند مضيق باب المندب. غير أن ما هو متسق اصطدم بصراع ضار على النفوذ والقوة فى المنطقة، وحيث كان التقدم تبدت الثغرات. فى بدء التدخل العسكرى عام (1962) كانت مصر تحت صدمة الانفصال وانكسار تجربتها الوحدوية مع سوريا فى (28) سبتمبر (1961)، التى لم تستمر سوى نحو ثلاث سنوات ونصف السنة. وكان ذلك شرخا هائلا لم يخفف من وطأته إلهام ثورة المليون ونصف المليون شهيد فى الجزائر وانتصارها فى يوليو (1962) بدعم مصرى كامل سياسيا وعسكريا وإعلاميا. انكسار مشروع الوحدة ضرب بعمق التوجه الرئيسى ل«جمال عبدالناصر» ولم يكن مستعدا لتقبل انهيار الثورة اليمنية أمام ضربات بقايا النظام الإمامى وحلفاؤه فى الجوار المباشر ولعله طلب ضخ روح جديدة بعد الانتصار الجزائرى فى الحركة القومية التى يقودها. القضية الآن اختلفت، فلا حركات تحرير ولا نزوع إلى تغيير جدى ينقل اليمن من القبيلة إلى الدولة. أفضل ما يقال فى طلب إنقاذ اليمن منع انزلاقه فى حروب أهلية تستهلكه بالكامل، وهذا كلام فى السياسة قبل السلاح. فى الستينيات كانت التقديرات السياسية والعسكرية أن التدخل سوف يكون محدودا فى قواته ومؤقتا فى عملياته لتثبيت الثورة اليمنية غير أن ما هو محدود اتسع إلى (70) ألف جندى وما هو مؤقت امتد لنحو خمس سنوات استنزفت الجيش المصرى فوق تضاريس قاسية. درس الماضى يصلح لإلهام الحاضر. فى مثل هذا النوع من الحروب يصعب الرهان على أنها سوف تكون محدودة، فإذا لم تهاجم وتتوسع فإن من تقاتلهم سوف يهاجمونك حيث تتمركز. نعم الأهداف كانت نبيلة حقا فى انتشال بلد عربى عريق من ظلمات العصور الوسطى حتى أن أبسط الأدوات الحديثة مثل المكواة لم تكن يسمع بها وأبسط الحقوق الإنسانية لم يكن يعترف بها غير أن ما هو نبيل بدا لأطراف أخرى فرصة لاصطياد العسكرية المصرية فى اليمن قبل اصطيادها فى سيناء. إذا لم نتحسب لكل خطوة وندقق فى التداعيات فكأننا شعب يهدر خبرته فى التاريخ بكل وعودها وإحباطاتها. فيما هو واضح من كلام الرئيس «عبدالفتاح السيسى» فإن قرار التدخل قد اتخذ وحسم أمره وبدأت الإجراءات الدستورية وفق المادة (152) ل«إعلان الحرب وإرسال القوات المسلحة فى مهمة قتالية إلى خارج حدود الدولة». الخطوة الأولى وفق النص الدستورى فى حالة ألا يكون مجلس النواب قائما «أخذ رأى المجلس الأعلى للقوات المسلحة»، وهذا ما حدث بالضبط. والخطوتان التاليتان «موافقة كل من مجلس الوزراء ومجلس الدفاع الوطنى»، وهو ما أعلن الرئيس أنه بصدد الاجتماع معهما للغرض نفسه. الاجتماع الاستثنائى للقيادة العسكرية المصرية سبقه اجتماع مثير بتوقيته فى الرياض لرؤساء أركان الجيوش المشاركة فيما تسمى «عاصفة الحزم» بدا تمهيدا لمشروع التدخل البرى بعدما أخفقت العمليات الجوية فى تقويض قدرة القوات الحوثية وأنصار الرئيس السابق «على عبدالله صالح» على تهديد عدن. معنى سقوط العاصمة الثانية عدن بعد العاصمة الأولى صنعاء انكسار أية عاصفة وأى حزم قبل أى ذهاب جديد إلى موائد التفاوض. باليقين فهناك مفاوضات قادمة لن تتأخر طويلا فالإرادة الدولية والإقليمية من الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبى إلى روسيا والصين إلى السعودية ومصر وإيران نفسها تجمع على هذا الخيار. السؤال الرئيسى هنا: تحت أى موازين قوى وبأى أفق سياسى سوف تجرى المفاوضات المتوقعة؟ وهذا مالا توجد عليه إجابة مصرية تحترم القلق العام وتسعى لبناء توافق وطنى واسع قبل إرسال القوات إلى الخارج. بصراحة كاملة فإن السعودية تتحسب لتبعات الهزيمة السياسية قبل التفاوض المنتظر وتطلب أن تكون الموازين العسكرية على الأرض لصالحها قبل أية استحقاق سياسى وفق مخرجات الحوار الوطنى اليمنى المعطلة وشرعية الحضور الأممى قبل شرعية الرئيس «عبدربه منصور هادى».. غير أن قواتها غير مؤهلة لتدخل برى تدرك أنه مكلف وقد تمتد آثاره إلى داخل حدودها. ثمة رهان على دور عسكرى مصرى جديد فى اليمن يقود عمليا قوات أخرى حليفة. بمعلومات شبه مؤكدة فإن مصر لم تكن لها مشاركة تذكر تخطيطا أو تنفيذا فى عمليات القصف الجوى لمواقع وتمركزات الحوثيين وأنصار «صالح»، وقد أخطرت بتلك العمليات قبل وقت وجيز للغاية من انطلاق طائراتها قبل قمة «شرم الشيخ» العربية. فى التوقيت نفسه أدارت الولاياتالمتحدة عمليات القصف الجوى بإسناد لوجسيتى واستخباراتى وأدوار أخرى ربما تكون أكثر محورية. اللافت فى حديث الرئيس «السيسى» أنه لم يفصح أو يشر مرة واحدة إلى إرسال قوات برية أو التوجه إلى تدخل عسكرى فى اليمن رغم الوضوح الكامل لما وراء الكلمات. فى عدم الإشارة المباشرة شىء من عدم الارتياح للتبعات والتداعيات المحتملة وشىء آخر من التحسب لقلق الرأى العام الذى يصل إلى مسامعه. هو محق تماما فى عدم الارتياح وأسباب التحسب. فهذا أخطر قرار يعترضه منذ صعوده إلى رئاسة الدولة. وهو يجد نفسه أمام اختيارين قاسيين والإجابة شبه إجبارية. الأول، أن يستجيب لمشاعر القلق وأسباب التحسب فيقرر ألا يرسل أية قوات برية للحرب فى اليمن، غير أن هذا الاختيار يكلفه خسارة حلفاؤه فى الخليج الذين راهنوا عند إطاحة جماعة الإخوان المسلمين من السلطة على دور مصرى يوازن الصعود الإيرانى فى المنطقة ويكون بوليصة تأمين لدولها. الخسارة المحتملة تتجاوز الخليج وتسحب بقسوة من احتمالات صعود مصرى إقليمى جديد فى أى مدى منظور فى لحظة صعبة تتقرر عندها أوزان اللاعبين الإقليميين بعد الاختراق الكبير لأزمة البرنامج النووى الإيرانى. والثانى، أن يستجيب للضغوط والإحراجات بأكثر مما يحتمله الأمن القومى المصرى فى لحظة حرب ضارية مع الإرهاب فى سيناء، وهذا الخيار قد يفضى إلى استنزاف عسكرى جديد فى المستنقع اليمنى، فالحوثيون من مكونات مجتمعه، وبغض النظر عن الدور الإيرانى فى دعم صعودهم العسكرى إلا أنهم من أفقر اليمنيين ويفتقرون بفداحة إلى أية خدمات صحية وتعليمية فى جبال صعدة التى خرجوا منها. بوضوح كامل الحوثيون ليسوا هم العدو ولا إيران هى إسرائيل ومواجهة الأزمة تتطلب أن يكون الأفق السياسى معلنا وواضحا. التوازن الإقليمى ضرورى والتصدى لأى تغول على الحقوق والأراضى العربية لا يصح التهاون فيه، فقد أصبح الضعف العربى مادة لاستهزاء عام معلن، غير أن ذلك يستدعى ألا تنخرط مصر على أى نحو فى منازعات مذهبية لم تألفها طوال تاريخها الحديث، أو أن تدخل بأية طريقة فى حرب مفتوحة مع إيران. بصياغة أخرى لا هو ممكن الانعزال عن الخليج والتنكر لمقتضيات أمنه إلا أن تكون حماقة كاملة ولا هو مقبول التورط فى المستنقع اليمنى من جديد إلا أن تكون دروس التاريخ قد أهدرت. قبل أى خطوة بالسلاح فإن الأولوية للسياسة.