الاقتصادية - السعودية لا يستطيع أحد التقليل من أهمية تهيئة الموارد البشرية المتخصصة والمطلوبة لمواكبة التنمية، وقبل ذلك هي استجابة لحاجات المجتمع الماسة. ومع أن الأرقام تثبت بكل شفافية حاجتنا الماسة إلى المزيد من الأطباء المتميزين، ويؤيد ذلك واقع القطاع الصحي الحكومي والقطاع الخاص المتمثل في ازدحام المستشفيات وقوائم الانتظار وجودة الخدمات الصحية المقدمة، إلا أن جهود صنع الأطباء السعوديين لا تزال مبعثرة وناقصة. أعتقد أن الفوضى الموجودة في الدعم المهني للأطباء تشكل مثالا جيدا لما يحصل لجميع المهن في المملكة وهي خطيرة على مهنة الطب محليا كما أنها خطيرة أيضا على جميع المهن الأخرى. نفتقد البرامج الذكية الشاملة التي تعالج مشاكل المقبلين على هذه المهنة، تلك البرامج التي تحفزهم وتطورهم قبل أن ينتموا إليها بطريقة رسمية وبعد أن يحملوا رايتها كذلك. ولأن هذا الدور تقوم به أحيانا الجمعيات المهنية المتخصصة التي لا تزال محليا في مرحلة الحضانة! فإن وجود برامج وطنية مركزية تنسق وترعى جهود دعم الشباب وتأهيلهم المتخصص مطلب مهم. أنا لا أتحدث عن جهة تقدم اختبارات القياس أو تتبنى الترخيص لممارسي المهنة، وإنما عن جهة مركزية تنسق الجهود التي تقوم بها الأسر والمدارس والجامعات والكليات والمستشفيات الكبرى والجهات التنظيمية وحتى البرامج الطبية في ملحقياتنا في الخارج. الانتساب لمهنة الطب قرار يستحق الاحترام وتتبعه التزامات معتبرة ومتنوعة؛ طريقه محفوف بالمخاطر والتحديات التي تتطلب تخطيطا دقيقا وعنايةً فائقة من طبيب المستقبل. وفي الظروف المثلى، تأخذ رحلة الإعداد فترة طويلة تزيد على العشر سنوات أحيانا. تعتبر هذه الرحلة الطويلة استثمارا شخصيا مهنيا طويل الأمد، وهي كذلك استثمار معتبر للقدرات البشرية الوطنية. من مصلحة الجميع أن لا تطول هذه الفترة أكثر من اللازم، وأن لا تحدث التعثرات لأسباب كان من الممكن تفاديها، وأن لا يتعثر أحدهم وحيدا ولا يجد من يقدم له الإرشاد والنصح في اللحظة المناسبة. ناقش الكثيرون واقع مهنة الطب وقضايا الأطباء الوافدين والخريجين الجدد والمبتعثين الذين لا يعودون. ومن يتابع قضاياهم يجد أن المفارقات لا تنتهي، من إيقاف لابتعاث الدراسات العليا للجامعات العربية بغض النظر عن مستوى الجامعة إلى الاحتفال بقبول 91 مبتعثا فقط في برنامج المطابقة الأمريكية؛ إضافة إلى استمرار إرسال الطلبة إلى جامعات غير معهودة في دول جديدة ناهيك عن إعلانات وزارة الخدمة المدنية عن الوظائف الفعلية الشاغرة التي لا تتجاوز بضع مئات كل عام، مع أن هناك أكثر من 70 ألف طبيب يعمل في المملكة جلهم من غير السعوديين. وبالطبع مثلها مثل معظم المهن، يشتكي ممارسو مهنة الطب من تأخر الترقيات وقلة الحوافز للأقلية المواطنة مع إمضاء العقود المجزية للأغلبية الوافدة. ومن شكاواهم أيضا ما يتعلق بفرص العمل خارج الدوام في القطاع الخاص، حيث إن الدوام الحكومي لا يستغل القدرات الكامنة ويكبح الإنتاجية، والمصيبة أنه يمنعها خارج إطاره الضيق. والفكرة ليست في الاستجابة لجميع الشكاوى، ولكن لابد أن يحوز المنتمون لهذه المهنة على ما يستحقونه من الحوافز والامتيازات التي تعادل الجهد المبذول فيها وتقابل الحاجة الماسة إليها. اختيار قرار التخصص في الطب يبدأ عادة من مرحلة مبكرة، ومن المعقول القول إن أطباء المستقبل من المبادرين في اختيار التخصص، مقارنة بأصحاب التخصصات الأخرى. وهذا يصنع فترة كافية – أطول نسبيا من التخصصات الأخرى - للدعم والتوجيه المبكر. ترشح الأسر أبناءها وهم على ثقة بإجادة الأبناء مهارات اختيار القرارات السليمة واجتياز الاختبارات الطويلة ومقارعة المتميزين من مختلف دول العالم في الدراسة والعمل. كلما تحسنت باقة المهارات ارتفعت فرص إنهاء هذه البرامج في الوقت المخطط له. وهذا يعني بكل بساطة، أن استفادة الأسرة من برنامج رسمي وقوي يرعى أطباء المستقبل متطلب ضروري جدا. وجود هذا الدعم مهم قبل دراسة الطب وخلال الدراسة وبعد الدراسة كذلك. أقرب الأمثلة على التطبيقات المفقودة لدينا ما يحدث في دولة مثل ألمانيا حيث يندمج الخريج في برنامج التخصص بطريقة تلقائية بغض النظر عن المؤسسة الطبية التي يلتحق بها. على ماذا يا ترى يحتوي "البرنامج الوطني لصنع الأطباء"؟ على مصادر بشرية ومعرفية تلائم احتياجات المستفيدين. على سبيل المثال، قد يقوم البرنامج برعاية شبكة من الأطباء الخبراء الذين عرفوا بدعمهم للشباب ولطلبة الطب تحديدا، ويعزز تواصلهم مع المستفيدين بعقد اللقاءات وتفعيل القنوات المباشرة والسهلة التي تتاح بلا مقابل أو تكلّف. كذلك، قد يهدف البرناج إلى توعية الأسر التي تتحمس لمهنة الطب وتبدأ في محاولة التأثير في قرارات الابن أو الابنة، فيرفع عنها عناء الضغط السلبي ويمكنها من طرح الخيارات بطريقة أكثر تأثيرا وإيجابية. ودون شك، قد يساعد البرنامج بالتنسيق مع هيئات التخصصات المحلية والدولية والجمعيات المهنية على إعادة رسم المسارات المهنية المتخصصة وطرحها للطبيب السعودي بعرض أكثر واقعية ووضوحا، بحيث لا يستهلك السنوات ولا يكثر من السفر مضيعا وقته في السؤال والتجارب.