الوطن - السعودية انتشرت صورة للشيخ سلمان العودة يزور الروائي عبده خال -شفاه الله- في المستشفى، بعد وعكته الصحية الأخيرة، وهي صورة طبيعية في أصلها ولا تحمل مدلولات بعيدة المدى -في غير سياقنا السعودي- غير كونها صورة إنسان يزور إنسانا آخر يستحق الزيارة على السرير الأبيض، بل إنها واجب إنساني قبل أن تكون واجبا شرعيا، ولأجل ذلك، ربما لا تحمل هذه الصورة أي علامة على تحولات في الصراع الدائر بين أطياف التيارات في المجتمعات الأخرى بوصف الرجلين من اتجاهين مختلفين. إلا أن الدلالات السيميائية، أيا كانت وسيلتها، بما فيها دلالات الصورة الفوتوجرافية، تأخذ بعدا آخر، من خلال السياق الذي وُجدت فيه، سواء كان سياقا كلاميا أو سياقا ثقافيا، فهي تنحى إلى أن تتحول إلى علامة دالة لها ما لها من معاني عديدة، وأي انزياح في اللغة (والصورة لغة بصرية) يفضي إلى مدلولات جديدة لخروجها من السياق الأصلي لها إلى سياق جديد ذي معان جديدة، وعلى ذلك قرأت صورة زيارة العودة لعبده خال وفق الانزياح اللغوي للصورة داخل السياق السعودي، وليس وفق أي سياق آخر. كتبت الشاعرة والكاتبة سعدية مفرح، في تغريدة لها على صفحتها في برنامج التواصل الاجتماعي (تويتر) حول هذه الصورة ما نصه: "يُفترض أنها صورة عادية، لكنها في أجواء الاستقطاب التي نعيشها تصبح لافتة وجميلة..."، وهذه قراءة وفق السياق الاجتماعي والثقافي، مما تجعل الصورة علامة متعددة الدلالات من خلال إعادة قيمة مفهوم زيارة المريض على المستوى الإنساني والديني من جهة، وقيمة احترام المخالف فكريا من جهة ثانية، ومحاولة تجسير الهوة بين التيارات في المجتمع من جهة ثالثة، واتساع الرؤية الإسلامية من قبل العودة، أو اتساع الرؤية الثقافية من قبل عبده خال من جهة رابعة، ورفض لكافة أشكال التشدد من جهة خامسة، وتفرّد في اتخاذ القرارات، وعدم الانسياق الجماهيري الذي يلغي الفردية من جهة سادسة وغيرها.. لذلك تنفتح هذه الصورة على مدلولات واسعة من خلال لقطة صغيرة، ربما كانت عابرة، أو حتى مقصودة. ولعل البعض من المثقفين اعترض على كونها صورة ذات مدلولات، وعلى مدى انتشارها، لكون بعضهم يرون أنها لا تستحق كل هذا الانتشار لطبيعتها وبساطتها، فهي حق وواجب إنساني تجاه إنسان آخر، فلا يُفترض أن تأخذ أبعد من ذلك، وهذا صحيح ما لم تؤخذ هذه الصورة وفق السياق الاجتماعي والثقافي والتيّاري الذي يحيط بالصورة من جوانبها، بوصفه الفضاء الثقافي الذي يتحكم في تمريرها، أو رفضها، أو حتى في تهميشها، أو تمركزها، فكونها صورة هامشية صعدت إلى أن تكون مركزية الدلالة، فذلك لأن التمركز حول ذهنية الصراع في السعودية، وربما العالم العربي ككل، أدى إلى مثل هذا الانتشار، ولذا أريد أن تكون لهذه الصورة/ الهامش مركزا في مقابل مركز يُراد له أن يعود هامشا. فبالعودة إلى كافة الأحداث الثقافية السعودية، فإن الصراع بين التيارات كانت هي سمة المراحل، وهي علامته الواضحة، فمنذ صراع الحداثيين مع الصحوة في الثمانينات الميلادية، وكذلك صراع الإسلاميين بعمومهم مع ما يمكن أن نسميهم ب"الوطنيين" -مع تحفظي على هذا الوصف لهلاميته- في التسعينات الميلادية، ثم صراع الإسلاميين بين تياراتهم المختلفة السلفية والصحوية والجامية، في منتصف التسعينات، وأواخرها، وبداية الألفية، ثم دخول المنطقة في الصراع مع التيارات بين الليبرالية والإسلامية من جهة، أو بين الوسطية والتشدد من داخل التيار الإسلامي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، إلى الصراع بين الأطياف الثورية، وغير الثورية، وتمازج الإسلاميين مع بعض الليبراليين، أو مع بعض العروبيين من جهة، وغير الثوريين، أو المنتمين للجانب الرافض للثورات من مثقفي الحكومات من جهة ثانية، إلى مثقفي "ما بعد الثورات" -إذا صح وجود هؤلاء في سياقهم الثقافي وتشكيلهم تيارا محدد الملامح- وهم ناقدو الثورات، محاولة منهم لمساءلتها تصحيحا لمساراتها التي انفلتت، دون أن ينساقوا إلى رغبات الحكومات العربية. والمعنيان بالصورة: سلمان العودة وعبده خال، كانا أحد أقطاب الصراع الحاصل في السعودية بشكل أو بآخر. ومن المهم قراءة مثل هذا الحدث الصغير في سياق صراع التيارات بوصفه استثنائيا خارجا عن تلك الحالة. صحيح أنها لا تؤسس كثيرا إلى رؤية جديدة، أو مفصلية، إلا أن لها ما لها من الدلالات التي ذُكرت عاليا، لكنها فتحت فكرة بدأت تتواجد في الثقافة السعودية، وهي نقد التيارات جميعها، وإن كانت ما تزال أفكار هذا النقد في بدياته، بمعنى أن النقد يذهب إلى رفض الصراع، والحديث عن جانبين: الأول أن المجتمع ملّ من هذه الصراعات غير المجدية، ومن المهم الاجتماع وفق المشتركات الوطنية، أما الثاني فيرى أن المجتمع البسيط غير معني بهذه الصراعات، وهذا صحيح في نسبة منه، وليس في كله، إذ يحتاج العمل على المشتركات الوطنية إلى نقد التيارات لنفسها من الداخل، ويحتاج الحديث عن عدم اهتمام المجتمع بهذا الصراع إلى تحقيق مفهوم الهيمنة من قبل أي صراع، ولكن لا وجود لهذا الرفض، بل هو أقرب إلى الاستسلام العام لتيار التقليد دون غيره. في رأيي أنه من المهم الانتقال من مفهوم الصراع إلى تأسيس مفهوم "ما بعد الصراع" أي الانتقال إلى تلك المرحلة التي تعمل على نقد كافة التيارات من داخلها، وتقوّض أسسها التي تبني عليها استقطابها، لفتح أفق النقد والتثاقف والتعايش، وهي مهمة تصعب إلا مع أجيال لم تعايش الصراع، ولم تنخرط فيه لتؤسس لنفسها طريقها الخاص، بحيث تقف على مسافة واحدة من التيارات في نقدها لها، لفتح كافة صفحات الصراع بينها، ومحاكمتها معرفيا، من خلال مفهوم النقد التواصلي الذي تعمل على التنظير فيه بعض الفلسفات النقدية الحديثة.