عبدالله المفلح التقرير الكندية يقال إن مفكرًا سياسيًا غربيًا كتب ورقة قبل انتحاره، يقول فيها: درست السياسة طوال عمري، وحللت تطبيقاتها العملية في الشرق والغرب. وقضيت شطرًا من عمري في بحث تناغم هذه التطبيقات العملية مع الأسس النظرية والفلسفية. فالسياسة كما يعلم الجميع، هي فن الممكن وفق أصول وتطبيقات متنوعة تهدف إلى مد النفوذ أو بسط السيطرة أو وضع اليد على الثروات أو كل هذه مجتمعة. اكتشفت بعد دراستي وبحثي أن السياسة ليست لغزًا، وأن معايير الحكم عليها ليست سرًا. لكن الدهاء والمكر والاحترافية، تكمن في إدارة الطريقة التي تحقق فيها الحكومات أهدافها بأقل قدر من الوقت والموارد والمخاطر والانتكاسات. كنت أعيش في عالم "منطقي" جدًا، إلى أن "قدَّر الله علي" وحصلت الانعطافة الكبرى في مجال عملي، حين طلب مني مركز الدراسات الاستراتيجية الذي أعمل فيه بحثًا حول السياسة الخليجية وأهدافها القصيرة والطويلة الأمد وتطابق الخطوات العملية مع الهدف الاستراتيجي. بأمانة شديدة، فشلتُ فشلًا ذريعًا في فهم الطريقة التي يفكر بها السياسي الخليجي، وكذلك في معرفة الطريقة التي يفرز من خلالها قراره السياسي. كل حكومات العالم تضع لنفسها استراتيجيات وتكتيكات لتحقيق أهدافها المستخلصة من دستورها وقيمها وثقافتها وتاريخها. لكن، هذا لا ينطبق على السياسة الخليجية؛ فلا ثوابت سياسية، ولا استراتيجيات بعيدة الأمد، ولا ديناميكية نشطة ومرنة في التعاطي مع المستجدات. لا يعرف الخليجيون أن السياسة هي فن الممكن لتحقيق الثوابت الدستورية الوطنية، وليس فن الممكن للبقاء حيًا ولو أدى ذلك إلى الانقلاب على الثوابت الدستورية والوطنية وتقديمها على مذبح الأقوياء. حين قال تشرشل: ليس هناك عداوات دائمة أو صداقات دائمة بل مصالح دائمة، كان يضع المصلحة الوطنية البريطانية كالثابت الدائم. عند الخليجيين: ليس هناك عداوات دائمة أو صداقات دائمة أو مصالح دائمة، هناك فقط مصالح شخصية دائمة، ورؤية فردية غير مؤسسية دائمة. إن الباحث في تفاصيل المشهد السياسي الخليجي يدرك جيدًا أن عملية اتخاذ القرار تتم بشكل فردي، تعتمد بشكل كامل على الفرد الذي تم وضع الثقة فيه، فيترك له الحبل على الغارب كما يحلو له، إلى أن تحدث الكارثة فيتم إزاحته من منصبه، ووضعه في منصب آخر، فهو في النهاية من الموالين المقربين والحكم لا يتخلى عن الموالين له. ما يزيد الأمر سوءًا، هو عدم وجود وحدة مركزية شاملة للقرار السياسي يمكنها امتصاص واستيعاب الفردية في اتخاذ القرارات هنا وهناك. في الخليج لا يتم استشارة مراكز استراتيجيات أو أبحاث أو دراسات، فلا حاجة لها في وجود مجتمعات ما قبل حداثية حسب الرؤية السياسية الحاكمة. في ضوء كل ما سبق، قطعًا لن يمكنكم تفسير ما يلي: الخليج الذي يهاجم إيران ليل نهار ويقول إن لها في الخليج مطامع توسعية، يشن حربًا على داعش العدو اللدود والأيديولوجي لإيران، والذي يمنعها من بسط سيطرتها على كامل التراب العراقي والسوري، وبالتالي منع تمددها ووصولها إلى الخليج. هذا الخليج نفسه الذي تهاجمه كل الحكومات العراقية المتعاقبة والتي تعلن ولاءها الصريح لإيران، يتعهد بدعم حكومة العبادي، العميل لإيران، لقتال داعش، بل وتدريب الجيش العراقي إذا لزم الأمر. الخليج الذي يهاجم نظام بشَّار الأسد ويقول إنَّه نظامٌ فاقد للشرعية وإن ممثل سوريا ينبغي أن يكون الائتلاف السوري، هو الذي يقصف اليوم مواقع داعش سامحًا لقوات الأسد بالتمدد واحتلال تلك المواقع. وهو ذاته الذي يرفض سحب السفارة من النظام السوري وتسليمها للائتلاف، بل ويُجرِّم من يدعم الثورة ولو برفع علمها. الخليج الذي وقف خلف المملكة حين حاربت عصابات الحوثية، هو الذي يدعم اليوم علي عبدالله صالح حليف الحوثيين للسيطرة على اليمن، تحت لافتة منع وصول الإخوان المسلمين. الخليج الذي يهاجم حزب الله ولواء "أبو الفضل العراقي" وجيش المهدي والحرس الثوري ويتهمهم بقتل الشعب السوري، يضع حزب الإخوان المسلمين الذي لم يطلق رصاصة واحدة في قائمة الإرهاب ويبرىء ساحة حزب الله ولواء "أبو الفضل". الخليج الذي يعتبر الإخوان المسلمين جماعة إرهابية، هو الذي يدعم حكومة المغرب "الإخوانية"، وحكومة الأردن التي يدعمها الإخوان، وحكومة السودان المقربة من الإخوان. السيسي الذي تصرف عليه دول الخليج، يدعم نظَّام بشار الذي يهاجم الخليج. الخليج يدعم الجيش اللبناني، الذي يعمل (كلب صيد) عند حزب الله الذي يقاتل في صف نظام بشَّار. الخليج الذي يرفض تزويد الجيش الحر بالمضادات الجوية لوقف غارات طيران نظام بشَّار بزعم أن الوضع مُعقَّد جدًا، يرسل طياريه لاختراق المجال الجوي لنظام بشَّار لقصف خصوم نظام بشَّار. الخليج يدعم الثورة السورية ويتعاطف مع معاناة اللاجئين السوريين، فيقرر التبرع بمليارات لحكومة مصر والمغرب والأردن ولبنان. لم أضع أداة تعجب واحدة في نهاية أي جملة؛ لأنني وبصدق لم أجد حكومات الخليج تتعجب أو شعوب الخليج تتعجب مما يجري أمام ناظريها من تخبط ليس له نظير! ** ** ** كانت هذه آخر كلمات المفكر والمحلل السياسي قبل أن يشنق نفسه.