عبدالله القرشي مكة أون لاين - السعودية مع الأمر الملكي الأخير بإعداد (مدونة الأحكام القضائية) تجدَّدَ الحديث عن الموضوع القديم والمتجدد في الدعوة إلى تقنين القضاء. والتقنينُ هنا تدوينٌ متخصص، مع الإلزام بهذه المدونة. وأكثر الرافضين للتقنين ينطلقون من رؤية مركزية (للقاضي)، وما يجب عليه من الحكم بما تبرأ به ذمته، ويصل إليه اجتهاده. إضافة لما يحدث عادة من التخوف والمدافعة لكل جديد لم تتبين معالمه. في حين أن المطالبين بالتقنين ينطلقون من رؤية مركزية (للقضاء) وما يجب له من وضوح واستقرار وعدل ومساواة. إن أعظم ما يميز القضاء في بلادنا أنه يحكم بالشريعة الإسلامية، وهذه مسؤولية عظيمة أمام الله وأمام خلقه من المسلمين وغير المسلمين. لقد أصبح قضاؤنا هو الأنموذج الأشهر في تحكيم الشريعة الإسلامية والحمد لله. وكل ما يحدث في هذا القضاء من تفوق أو إخفاق سيعود على تحكيم الشريعة ولا بد. ولن يجدي حينها أن نكرر التفريق بين صواب النظرية وخطأ التطبيق. إن فخرنا واعتزازنا بتطبيق الشريعة الإسلامية يجب أن يكون بجواره اهتمام واجتهاد في تحمل المسؤولية، وإظهار هذا التحاكم في خير الصور وأزكاها. تطوير القضاء إذن ليس ترفا من القول والعمل، بل هو واجب عظيم يغري بالتحاكم إلى شريعة الله ويدعو إليه. والمعاناة التي يجدها المتقاضي من الأفراد والشركات لن تعالجها النقاشات الفكرية، والرؤى المتحفظة على التغيير والتطوير، بل تعالجها وتداوي جراحها رؤيةٌ وهمة في تطوير القضاء، على المستوى التشريعي، والإجرائي، والإداري، والتقني. وكل إصلاح وتطوير يضاف إلى مرفق القضاء هو داعية هدى، ولسان صدق وتقوى. وكل خطأ وارتباك وتناقض يحدث في المحاكم هو من الصد عن سبيل الله وتحكيم شريعته. والأخطاء لا تخلو منها تجربة بشرية، لكن الكلام عن الغفلة عنها، وربما الدفاع عنها بحجة الدفاع عن القضاء. لقد آن الأوان ليكون للقضاء مدونة واضحة، يعرف الناس بها حقوقهم وواجباتهم، ويبنون عليها عقودهم، ويشعرون معها بالوضوح والاستقرار. ودون التقنين لأحكام القضاء سيكون القضاء في نظر المتقاضي ضربا من الغموض والتناقض. إن العقود نفسها جاءت لحسم الخلاف وتوضيح الحقوق والواجبات، ودون التقنين ستصبح هذه العقود مهددة بآراء فقهية قد تلغي العقد أو الشرط بناء على مذهب فقهي معتبر، وبهذا تفقد العقود قيمتها، ونعود على أصل الفكرة بالنقض. بينما تكسب العقود استقرارها ووضوحها حين تكون للقضاء مدونة واضحة، يراعيها المتعاقدان في اتفاقهما. والتقنين وحده لن يجعل قضاءنا متفوقا على قضاء الآخرين، لكنه خطوة مهمة في هذا السبيل. والتقنين لن يلغي الاجتهاد في الأحكام الفقهية لكن سيجعله اجتهادا جماعيا لكبار العلماء والقضاة الذين يراجعون المدونة ويجرون عليها ما تحتاجه من تصحيح وتطوير. إننا أمام مسؤولية عظيمة في تطوير قضائنا المتحاكم لشريعة الله، والتحرر من المواقف التي تعرقل مسيرة الإصلاح، ومواجهة كل قصور بالتصحيح والتطوير، بدل التفسير والتبرير.